كنت أرغب في أن أكمل رؤية المقالتين السابقتين عن القبيلة والبداوة وإنتاجهما في الخطاب الدارج، لكن مداخلة للسيد أحمد قذاف الدم في قناة العربية استفزتني أيما استفزاز، لأن كلامه كان نابرا باحتقار الليبيين، وأقصد القطاع الهائل من الليبيين الذين عاشوا على خط الفقر (وأنا منهم) وغير المستفيدين من النظام السابق ولا اللاحق، ولأنه من جديد يتبنى خطاب بدونة المستقبل الذي شوه النظام السابق به تلك االخصائص الاجتماعية.
حكى، في سياق ترويجه لعودة (شبح القذافي) سيف الإسلام للمشهد من الباب السلمي كما قال، مبررا هذه العودة بما سماه السنين العجاف التي جعلت الناس تحن للنظام السابق، وعن حاجة الناس للخبز والأعلاف والاستقرار، ونسي التغير الجذري الذي حصل بعد هذه السنين التي أعقبت ثورة فبراير، بكل تداعياتها المؤلمة والمتوقعة التي وضع بناها التحتية نظام شمولي أمتد 41 عاما، فليس بالخبز وحده كما يعتقد يعيش الإنسان، والطعام والأمن هو منطق حظائر الماشية وليس المجتمعات البشرية، والتغير المهم الذي حدث، هو أنه أصبح من الممكن من باب سلمي أن يعود نموذج من النظام القديم للترشح لأعلى منصب، بعكس ما فعله القذافي وحاشيته المجرمة مع رجال النظام السابق لانقلابه وعلى رأسهم الأمير إدريس، الذي ناضل لنصف قرن، سياسيا وعسكريا، إلى أن وصل عبر تحالفاته الذكية إلى نيل استقلال ليبيا في أصعب الظروف التي سماها المراقبون معجزة، والذي منع النظام الانقلابي حتى أن يعاد جثمانه ليُدفن في ليبيا.
شوهت تلك المرحلة ومُسخت ومحيت من التاريخ، رغم أن إدريس ونظامه لم يغتل المعارضين في الداخل وفي أصقاع الأرض، أو يقصي الشخصيات التي عملت مع النظام الفاشي المحتل، بل وضعهم في أعلى المناصب وفقا للكفاءة وتكريسا للتسامح، ولم يُهدّر على الليبيين بخطاباته أو يصفهم بدولة الحقراء، أو يشهر سبابته في وجوههم ويقول من لا يحبني لا يستحق الحياة. لم يشنق الطلاب في ساحات الجامعات والميادين العامة، ولم يحتفظ بجثامين معارضيه في ثلاجات لسنين طويلة، كما فعل القذافي مع السيد منصور الكيخيا، وأنت تعرف جيدا يا قذاف الدم تفاصيل خطفه وقتله في المعتقل. فعشرات الألوف من أولياء الدم الذين أجرمتم في حقهم سيلاحقونكم بالقانون وبطلب العدالة، مثلما لوحق جوستابو النازية لسبعين سنة، لأنها قضايا لا تسقط بالتقادم، ولأن تحقيق العدالة حتى وإن تأخر، يطمئن العالم عن إنسانيته وضميره.
حين يتحدث قذاف الدم عن “باب سلمي وقانوني” يسمح لابنه المدلل والمطلوب هو نفسه لمحاكم دولية ومحلية، أن يعود (وسيُرفض ترشحه لأسباب دستورية) فهذا هو التحول الذي ما كان له أن يكون لولا ثورة فبراير ولولا هذه السنين العجاف التي نعتبرها الطريق الصعب صوب الحلم الليبي. وحين يحتج قذاف الدم على قول المذيعة “حكم العائلة” ويقول: في ليبيا كانت سلطة شعب ولم يكن حكم عائلة وأنهم لم يتقلدوا مناصب، فهو مازال في ذروة احتقاره لليبيين وعقولهم، وهم جميعا يعرفون أن السلطة كل السلطة والثروة والسلاح كانت في قبضة العائلة والحاشية، وأنت، شخصيا، ماذا تملك من المؤهلات سوى أنك من العائلة، وكل حديث تدلي به يكشف هذا الخواء داخلك، وماذا يملك سيف من مؤهلات سوى أنه كان ابن الحاكم المطلق. وحين يقول قذاف الدم أن لسيف الإسلام جميلا على كل هؤلاء وأنه فعل وفعل، فإنه يؤكد حكم العائلة المطلق حيث سيف لم يتقلد أي منصب، وكان يفعل كذا وكذا بصلاحية ابن العائلة فقط، ودون أن يتحمل مسؤولية أي فعل، وهل ثمة دكتاتورية إقطاعية أنكى من هذه؟!.
وصفَ السنين العشر الأخيرة بالسنين العجاف، لكن نحن المواطنين؛ الذين لم ينخرطوا في الياغمة وحمى الفساد، عشنا عقود حكمكم سنين عجافا، فلا تتحدث عن السنين العجاف لمن عاشوا كل أعمارهم في سنين عجاف، لأنك لم تعرفها لا قبل ولا أثناء هذا العقد ولا بعده، بعد أن خرجت من حكم العائلة والمقربين مليارديرا في بلد نكل بالبرجوازية الوطنية، دون أن تمارس أي نشاط تنموي أو تجاري أو تسهم في اقتصاد البلد او تشغيل شبابها.
فنحن من كنا في الطوابير أثناء كل هذه العقود، وأنا شخصيا مثل الملايين، كنت أقضي فترة حكم قائدك ساعات طويلة في المصرف كي أحصل على 50 ديناراً على الأحمر أسد بها رمقي حين كان يتأخر المرتب شهورا طويلة أو عاما كاملا، رغم أني مهندس متخرج بامتياز مع مرتبة الشرف ومُنعت كآلاف غيري من إكمال الدراسة حين اقتحم جامعتنا أعضاء اللجان الثورية يوم 11 أبريل 1982 وعاثوا فيها خرابا، وضربا للطلاب والطالبات وأعضاء هيأة التدريس والموظفين دون ذنب يقترفونه، وتحول الحرم الجامعي إلى بركة من الدم يا قذاف الدم. وقبل ذلك كل عام، وفي ذكرى السابع من أبريل؛ الذي كنت أنت أحد مهندسيها ومديريها، يُشنق الطلاب في الحرم الجامعي وفي الميادين العامة، ويُمنع المتفوقون من إكمال دراستهم، ويُسجن بعضهم أو يلوذ بالمنفى وذنبه الوحيد أنه تفوق في الدراسة. فلا تتحدث عن السنين العجاف لأنك لم تكن معنا حين كنا مرعوبين من اللجان الثورية المسلحة التي تشبه جماعات داعش الآن، فكل من لا يعتنق فكر قائدك كان يوصف بأنه (مرتد) فيُصفَى أو يُسجن أو يُسحل أو تُقطّع أصابعه.
لقد استلم قائدك ليبيا على طبق من ذهب حين تنازل الملك سلميا عن عرشه، دولة قانون ومؤسسات، وتعليم وجامعات، وبنى تحتية وخدمات صحية، وتركها بعد 42 سنة من ضخ النفط الذي كان يدعم به حركات الإرهاب في العالم، تركها خرابة دون بنى تحتية وبشبكات طرق وكهرباء متهالكة، وبدون مطارات أو موانئ أو مواصلات تحترم الإنسان، وبانحدار للتعليم في جميع مراحله، وتدن للخدمات الصحية حيث كان الليبيون يلوذون بالدول الفقيرة للعلاج وهم في إحدى أغنى الدول فوق الأرض، وما معنى الأمان والاستقرار حين يكون التعليم في الهاوية والمستشفيات خالية حتى من الحقن التي كانت تستخدم في زمن سيدك أكثر من مرة، وكل مواطن مُعرض للاختفاء في أقبية السجون أو في الثلاجات دون أن يعرف أهله مصيره. فلا تتحدث عن السنين العجاف لأنك لم تكن مع من أصيب أبناؤهم بالإيدز المخطط له في مستشفى الأطفال في بنغازي، وهي جريمة كافية لأن تزيل أي نظام من عرشه بأي طريقة في أي دولة تحترم إنسانها.
من يروجون مثلك لعودة أشباح القذافي، يبررون ذلك بكون من جاءوا بعد نهاية النظام السابق لم ينجحوا، وهذه مغالطة، لأن ما حدث خلال هذه العشر سنوات كان تداعيات طبيعية لأسلوب النظام السابق في الحكم والذي حكم فيه الأب 41 سنة وشاركه الابن المرشح عشرين منها، وتركوا البلد دون بدائل آمنة للانتقال، تركوها بعد ثورة شعبية ضدهم مدججة بمخازن السلاح، دون دستور أو قوانين أو خارطة طريق، أو مؤسسات، أو قضاء مستقل، أو أي مرجعية سياسية، لأنهم فصّلوها على مقاس العائلة والحاشية، وربطوا عمرها بأعمارهم، وهيأوا ليبيا لتكون أرضا محروقة بعدهم. نعم العقد السابق سيء والعقود الأسبق سيئة ايضا، ولكن هذا لا يعني أن نعود من الأسوأ للسيء، أو من السيء للأسوأ، لأن دائما هناك خيارا آخر، والانتخابات الرئاسية التي ستُجرى لأول مرة في تاريخنا تقام من أجل هذا البديل الآخر، فأرجو أن لا تلوثوها بإعادة تدوير نفايات الماضي، تُقام من أجل أجيال أخرى لها أحلام مختلفة وذوق مختلف، مندمجة في العالم الرقمي وفي قيم العصر، ترتدي الملابس الحديثة وتفتح الفضاءات الفنية والجمالية وتغني الراب، وتسعى لتستعيد هويتها التي مسختموها، وتحلم بمرحلة يقودها الجيل الجديد والمرأة بجدارة، ولا تحلم بأشباح الماضي أو بهندام شخص كأنه قادم من كهوف التاريخ، بخطابه التهديدي الذي يصف معارضيه بالكافرين علنا في أول ظهور له.
فلا تتحدث، يا قذاف الدم، عن السنين العجاف لأنك لا تعرفها، والمطلوب منك ومن كل مَن مازال يدافع عن حقبة مظلمة ومجرمة، الاعتذار لليبيين، والمطلوب منكم بعض الخجل. أرجوكم بعض الخجل.
فنحن لا نطمح فقط إلى التخلص من الوجوه القديمة التي تذكرنا بالكابوس، ولكن نريد أن ننقي لغتنا من القاموس الفاشي الذي علق بها والذي مازال يتحدث به قذاف الدم ومرشحه.