امين الزاوي
في بلداننا العربية والشمال أفريقية على السواء، كل شيء مُخيّط، مُهَندس، مفصّل بدقة، بقدرة قادر لا شيء متروك للصدفة أو الاجتهاد: الثقافة والدين والمدرسة وحتى الأحلام. يعلّمون المواطن كيف يغتال الحلم فوق وسادته كي لا يزعج الديكتاتور بحلم خارج عن المسموح به. الحلم قوة نووية مخيفة.
لا يوجد ديكتاتور من دون ثقافة تلده، تصنعه، تطبخه على نار هادئة. لا وجود لديكتاتور من دون شعب يغرق حتى رأسه في الطاعة المطلقة. الطاعة هي رحم الديكتاتور.
لماذا يا تُرى تؤلّه الضحية العربية والمغاربية جلادها، ديكتاتورها؟ لماذا يا تُرى تبكيه بالدموع الساخنة يوم وفاته؟
بعناية فائقة، يسهر الديكتاتور على إنتاج “سيكولوجيا الرعاع الجماعية” التي تقدمه كشخصية خارقة لا مثيل لها. صورة تضعه يقف ما بين صورة “الإله” وصورة “الأب”. إله شعب الخنوع والطاعة هذا له القدرة على محو إله الناس، رب العالمين. الأب الديكتاتور هذا كفيل أيضاً بجعل المواطنين ينسون آباءهم البيولوجيين الطبيعيين والاكتفاء به أباً للأمة.
حين يبكي العربي أو المغاربي ديكتاتوريه، هل يعني هذا أن هذا المواطن شخصية رومانسية عاطفية؟ هل يوجد ملح في دموع المواطن الذي يبكي الديكتاتور؟
بمجرد وصول الديكتاتور إلى سدة الحكم، إلى منطقة القرار القصوى، يشرع، وبسرعة، في محو وإبعاد كل شخصية من دائرة مقربيه الأولى والثانية، يمكنها أن تشكل أصغر ظل قد يتطاول على ظله الذي يسع السماوات والأرض.
يعمل الديكتاتور على صناعة صورة له، في المخيال الجمعي، بوصفه من الكائنات الخالدة، وأنه ها هنا كي يرافق بعطف مواطنيه العابرين للحياة إلى موته. المواطنون الذين يشكّلون شعب الخنوع والطاعة.
يعمل الديكتاتور العربي على إقناع شعب الخنوع والطاعة على أنه الوحيد القادر والكفء على التفكير. فالفكر من اختصاصه، والسماء والتاريخ بعثا به كي يفكر نيابة عن شعب العبودية.
معتمداً على جميع الوسائل والوسائط، اللغوية الدعاوية والقمع الممنهج، يعمل الديكتاتور على إرسال شعب الطاعة والخنوع إلى النوم، إلى الخمول، إلى الصمت، إلى الركوع.
بكل ما أوتي من جبروت، يعمل الديكتاتور على تثمير فكرة في عقول العامة الدهماء الخنوعة، الفكرة القائلة بأنه هو الوحيد، لا غير، من يجسد “الذكاء” المطلق الذي يحمي شعب الطاعة. إنه الديكتاتور هو “السماء”، ومن يمثل الدعائم والأوتاد التي ترفع هذه السماء، كي لا تسقط على رؤوس العامة من شعب الخنوع والطاعة.
الديكتاتور، كي يظل ديكتاتوراً، هو من يختار لمواطنيه الأعزاء كتب القراءة، ويضع لشعراء بلده العزيز “بحور أوزان الشعر”. هو من يعطي للجميع إشارة ساعة الدخول إلى بيت الراحة. هو من يعلن عن توقيت الأذان الصيفي والشتوي. هو من يقرر ليلة الشك ويؤكد رؤية الهلال الذي يعلن بداية شهر الصيام وليلة القدر. هو من يقرر يوم العيد، وأيام الحداد. هو من يبرمج المواليد والموت وختان الذكور والإناث أيضاً. الديكتاتور يحب شعبه شعب الخنوع، لأن هذا الأخير يحب حد الهبل كرة القدم والتبغ الوطني. الديكتاتور يحب النساء اللواتي يحتفلن بالثامن من مارس بالزغاريد والرقص وأحمر الشفاه.
الديكتاتور هو البحر، وملح البحر هو. هو الخبز وماء الخبز. هو الحلو والمر، الجبل والسهل، الضحك والبكاء، المطر والجفاف. هو من يحمل الأرض التي “ليست كروية” بين ذراعيه، يفرشها سجاداً تحت أقدام شعبه ثم يسحبها متى أراد.
قبل وجود الديكتاتور لم يكن للوطن وجود، ولا لشعب الطاعة الذي يعمر فيه وجود. إن الديكتاتور هو من يصنع الأوطان ويصنع معها على مقاسه شعوب العبودية لهذه الأوطان التي يصنعها على شاكلة “الزريبة”، لولاه لكان الوطن وساكنة الوطن كذبة أو سحابة صيف.
هل في دموع المواطن العربي ملح وهو يبكي جلاده؟
حتى يتفرد بالحكم المطلق، واليد المطلقة، يقنع الديكتاتور شعب الطاعة بأن الحرية حمل ثقيل، ليس في مستطاع هذا الشعب حملها، وأن العبودية عسل الشعوب، من كثرة الركوع الأبدي للديكتاتور يعتقد شعب الخنوع بأن الحرية هي “ضياع” فردي أو جماعي. هذيان سياسي ومثقفاتي لا طائل من ورائه.
تحت إمرة الديكتاتور، لا يعرف شعب الخنوع النطق بكلمة “لا”، بل إنه لا يدرك معناها أصلاً، وهي المفردة الممحوة من القاموس السياسي والثقافي والاجتماعي.
تقول فلسفة الديكتاتور إن منقذ شعب الخنوع هو الخنوع أكثر. وتقول أخلاق الديكتاتور إن القناعة سعادة لا يدركها إلا من يعيش في “زريبة” الديكتاتور.
حتى يحكم قبضته أكثر على رقاب العباد، يعود الديكتاتور إلى الاستثمار في متون الثقافة الشعبية الإقطاعية. تلك التي تقسّم الناس إلى قسمين لا ثالث لهما: السيد والعبد. وإن العبودية هي قدر إلهي لا يمكن الهروب منه ولا رفضه. إن الإله، وقبل أن يستريح في اليوم السابع، وزّع السلطات والحظوظ على عباده، فمنح الديكتاتور السوط ومنح العبيد الظهور العارية لاستقبال ضربات السوط. هكذا، لا يمكن لأي أحد أن يحتج على إرادة السماء! يحفر الديكتاتور في النصوص الدينية ليستخرج منها، بتأويلات وقراءات خاصة، ما يكرّس سلطته ويعظم وجوده في عيون شعبه ويزيد في منسوب ثقافة العبودية.
حين يكبر شعب، جيلاً بعد جيل، في حالة حصار من كل الجهات، على جبهة الثقافة والدين والخبز والسياسة، يفقد الفرح معناه ويفقد الحزن معناه أيضاً. أما هذا الوضع الكفكاوي، فيبكي شعب الخنوع ديكتاتوره إذا ما مات، يتذوق ملح الجرح إذا ما توقفت ضربات السوط على الظهر.
لا وجود لديكتاتور يبكيه شعب الخنوع من دون ثقافة تسقي شجرته، ومن دون يد ترفع له نصباً في الساحات وقصيدة مشبوهة تقيم له وجوداً في جلد روح شعب الخنوع الضائع. الديكتاتورية ليست قدراً، إنها من صناعة أي شعب يغرق في الطاعة.