ميهاري تاديل مارو

تناقش هذه الورقة سؤالين حرجين ومترابطين على خلفية تجربتي إثيوبيا وراوندا. السؤال الأول، ما هي عناصر الدولة التنموية في ليبيا وما هي شؤونها السياسية والإقتصادية والثقافية؟ والسؤال الثاني، في ضوء الاختلافات بين مواقف القوى داخل وخارج ليبيا، هل تعتبر إقامة دولة تنموية هناك أمراً ممكناً؟

الجزء الثاني

القسم الثاني: نموذج الدولة التنموية في إثيوبيا ورواندا: التجربتان وعيوبهما

أولأ: تجربة إثيوبيا

التقدم الإجتماعي والإقتصادي والتطور في قطاع التعليم

تعد إثيوبيا ثاني أكبر دولة من حيث التعداد السكاني في إفريقيا، حيث يبلغ عدد سكانها 112.1 مليون نسمة، ونحو 35.7% من السكان دون سن الرابعة عشر بمتوسط معدل خصوبة يبلغ 3.4 طفلا للمرأة الواحدة ومتوسط نمو سنوي يبلغ 2%، ومن المتوقع أن يصل عدد سكان إثيوبيا إلى 151.8 مليون نسمة بحلول عام 2030. وهي واحدة من أفقر البلدان في العالم، حيث قدر البنك الدولي عام 2019 دخل الفرد في إثيوبيا بمقدار أقل بكثير من متوسط دخل الفرد في بلدان جنوب الصحراء الكبرى البالغ 1551.5 دولار سنويا. إذ يحقق الأثيوبيون دخلا وسطيا يبلغ 850 دولار سنويا، أي أقل بنحو 700 دولار من بقية بلدان جنوب الصحراء الكبرى.

وفي عام 2018، مثلت المساعدات الدولية نحو 4.9 مليار دولار من دخل إثيوبيا، ما يجعلها واحدة من أكثر الدول تلقيا للمساعدات الخارجية. وحتى وصول رئيس الوزراء أبي أحمد إلى السلطة في نيسان/ أبريل 2018، اعتبرت الدولة التنموية في إثيوبيا مسألة القضاء على الفقر مهمتها وكانت في حالة استقرار نسبي. وتعتبر خطتا النمو والتحول الخمسيتين، من 2010 حتى 2020، مثالا على الدولة التنموية في أفضل حالاتها.

ويمكن قياس نجاحها بخفض نسبة الفقر من 37.8% عام 2004 إلى 23.5% عام 2015، وهو ما يشكل انخفاضا بنسبة 15.2% في غضون عشر سنوات. ومع زيادة سنوية بنسبة 3% في عشر سنوات، بين عامي 2006 و 2016، ارتفع مؤشر التنمية البشرية في إثيوبيا بنسبة 45%، وارتفع متوسط العمر المتوقف عند الولادة بمقدار 15.8 سنة، وزاد متوسط سنوات الدراسة بمقدار 0.7 سنة، وزادت سنوات الدراسة المتوقعة بمقدار 6.3 سنة، وارتفع نصيب الفرد من الدخل القومي الإجمالي بنسبة 102 بالمئة.

وحتى وقت قريب، أظهرت إثيوبيا تقدما ملحوظا. وكانت واحدة من أسرع عشرة اقتصادات نموا على مستوى العالم، حيث سجلت معدلات نمو سنوية تجاوزت نسبة 10% على مدى عقد كامل (2005-2015)، ما جعلها الأسرع من حيث النمو الاقتصادي بين الدول الإفريقية غير المنتجة للنفط. ورغم المخاوف العميقة المتعلقة باستدامة هذا النمو، أكدت مختلف الوكالات، بما في ذلك الوكالات المشاركة في التنمية الدولية والإقليمية والمؤسسات المالية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، على ارتفاع معدل النمو الاقتصادي في إثيوبيا. ووفقا لبيانات البنك الدولي، بلغ معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي في إثيوبيا عام 2010 نسبة 8.7%. وسجلت نموا بنسبة 10.4% عام 2013، واقترب ناتجها المحلي الإجمالي في ذلك العام من 47 مليار دولار.

(لكن الأثار الإيجابية لهذا النمو تضاءلت كثيرا بسبب التضخم الكبير، الذي وصل عامي 2010 و 2011 إلى 40%). وبحلول عام 2018، كان من المتوقع أن يكون اقتصاد إثيوبيا واحدا من أفضل خمسة اقصتادات إفريقية، كما كان متوقعا أن يبقى في هذه القائمة للسنوات الأربعين المقبلة. وإن تحقق ذلك، كان بلغ متوسط معدل نمو دخل الفرد السنوي نسبة 3.65% . كما لاقت الجهود التي بذلتها إثيوبيا لتحقيق الأهداف الإنمائية للألفية التابعة للأمم المتحدة ترحيبا عالميا، واتخذت خطوات واسعة نحو بلوغ أهدافها في قطاعي الصحة والتعليم.

وفي العام 2014، باتت إثيوبيا من بين الدول الإفريقية القليلة التي حققت الأهداف الإنمائية للألفية التابعة للأمم المتحدة، وأحرزت نتائج رائعة في انتشال الملايين من مواطنيها من حالة الفقر المدقع بعد أن بدأت الدولة بتنفيذ خططها الإهمائية المتكاملة عام 2002، كما تبين الإحصاءات المذكورة أعلاه. ولوحظت تطورات كبيرة في قطاع التعليم. ففي العام الدراسي 1994-1995، كان عدد التلاميذ في المدارس الابتدائية نحو 3 ملايين تلميذ، ولكن هذا العدد ازداد في العام الدراسي 2008-2009 بنسبة تجاوزت 500% ليصل إلى 15.5 مليون تلميذ. وساعدت قدرات إثيوبيا في التنبؤ والوقاية والاستجابة على منح تحول مواسم الجفاف إلى مجاعة وخفّضت أعداد الوفيات.

وكان للدولة التنموية الفضل في تحقيق هذه الإنجازات. وبموجب شروط خطط النمو والتحول، أدارت الحكومة الاقتصاد وقدّمت الاستثمارات العامة اللبنة الأساسية للبنية التحتية المادية والخدمية اللازمة للتنمية الاقتصادية. واستثمرت الحكومة في البنية التحتية المادية مثل الطرق وسكك الحديد والطاقة والمياه، والصناعات التي اعتبرتها استراتيجية للتنمية والاستقرار في إثيوبيا، بما في ذلك قطاعات المعلومات والاتصالات والتمويل والمصارف والنقل والصلب والهندسة المعدنية وإنتاج السكر.

وأدارت الحكومة معظم الصناعات العامة وبعض الصناعات الحيوية التقليدية الخاصة حتى إعلان عام 2018 بخصخصة الشركات العامة. وشملت مهمات الدولة الرئيسية أثناء هذه الفترة دعم تنمية الزراعة التجارية على نطاق واسع، وتهيئة الظروف المواتية للصناعات الموجهة للتصدير والصناعات البديلة للواردات وتحفيزها، لا سيما صناعة السكر والمنسوجات والإسمنت، وتعزيز توسيع وجودة البنية التحتية، بما في ذلك الطرق وسكك الحديد وإمدادات الكهرباء والإتصالات.

الحياة السياسية

على الجبهة السياسية، أطاحت الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبيةـ والتي أصبحت بائدة اليوم ـ بنظام منغستو العسكري عام 1991، وبعد أربع سنوات في مرحلة انتقالية، عام 1995، اعتُبر النظام الفيدرالي متعدد الجنسيات الاداة الدستورية الأفضل لإحلال السلام والحفاظ على وحدة البلاد. وكانت الجبهة قد أصدرت عام 1995 دستورا يؤسس نظاما فيدراليا يتألف من مجتمعات لغوية وثقافية تعكس القواعد الاجتماعية للقوات المسلحة التي أطاحت بنظام منغستو. وقد آمنت قيادة الجبهة بأن تحقيق التنمية الاقتصادية السلمية في إثيوبيا لن يحدث إلا عبر تسوية فيدرالية وحماية المواطنين من التشرّد بسبب نزع ملكية الأراضي عنهم (وكان معظمهم من الفلاحين). إذ كانت الأرض ملكا للحكومة، وهي مورد طبيعي مهم بالنسبة للعديد من الدول الإفريقية، وتعتبر بأهمية النفط بالنسبة لدول أخرى مثل ليبيا.

وعبر ملكية الدولة للأراضي وسياسة النظام الفيدرالي، كانت الأراضي تفي بالمتطلبات الأساسية للموارد الطبيعية المستخدمة في مصالح الدولة التنموية. بين أن الأحزاب السياسية المعارضة رأت في ذلك سياسة للاحتفاظ بالسلطة عبر السيطرة على الأراضي، والتي تشكل مصدرا حيويا لرزق الأغلبية الساحقة من الإثيوبيين. وللتأكيد على التحديات السياسية الخطيرة التي واجهتها إثيوبيا، حلت في تقرير محمد إبراهيم عن مؤشر الحكم الإفريقي لعام 2010 في المرتبة 35 من أصل 53 دولة في القارة، حيث حصلت على 44 نقطة من 100 (وكانت الدولة صاحبة الدرجة الأعلى موريشيوس بـ 83 نقطة والأدنى دولة تشاد بـ 29 نقطة).

وبحلول عام 2020، ارتقت إثيوبيا في سلم الدرجات لتصل إلى المرتبة 31 من أصل 54 دولة بدرجة بلغت 46.6 من 100، وكانت الدرجة العليا آنذاك لدولة موريشيوس 77.2 درجة والدنيا الصومال بـ 19.2 درجة. إذ سجلت إثيوبيا تحسنا بلغ 6.7 نقطة في الحكم في السنوات العشر الماضية، وارتفعت 4 مراتب. مع ذلك، وعند 48.8 نقطة، انخفض مستوى الحكم العام في إثيوبيا بمقدار 2.2 نقطة عن الرقم المتوسط بين البلدان النظيرة ذات الأهمية. وفيما يتعلق بالسلامة وسيادة القانون، لا تزال إثيوبيا تحت المتوسط البالغ 49.5 بمقدار 1.6 نقطة، لكنها تحسنت (بـ 5.2 نقاط) في الفترة ما بين 2005 و 2015. وكان مؤشر عجز الديمقراطية والمشاركة السياسية وحماية حقوق الإنسان في إثيوبيا أدنى بمقدار 11.4 نقطة من المتوسط في البلدان الإفريقية.

وفي الفترة ما بين 2005 و 2015، تحسن الأداء العام في المشاركة السياسية وحماية حقوق الإنسان بمقدار 6.3 نقطة. ولا يأخذ هذا الحساب في الإعتبار مستوى المنافسة السياسية الضعيف الذي ساد بعد انتخابات عام 2005. في الفترة نفسها، لم تتميز إثيوبيا إلا في الفرص الإقتصادية المستدامة، حيث سجلت 1.9 نقطة أعلى من متوسط الدول الإفريقية، لكنه ارتفع بعد ذلك بمقدار 5.6 نقطة. وبالنسبة إلى الدولة التنموية، من شأن الإنخفاض المستمر في النتيجة أن يضعف المصدر الرئيسي لشرعية الحكومة: توفير الفرص الإقتصادية المستدامة.

من النجاح إلى الحرب الأهلية

منذ عام 1991 تحاول القيادة الإثيوبية دفع المركب الوطنية بشكل دائم، وقد فعلت الكثير لتصحيح المظالم التاريخية الحرجة والحد من الفقر. مع ذلك، وفي محاولة لتصحيح الإرث السلطوي للجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية، هزّت تغييرات الحكومة عام 2018 مجموعة من الركائز التي تستقر عليها البلاد. ومنذ عام 2020 تستعر الحرب الأهلية في إثيوبيا، لا سيما في إقليمي تيغراي وأوروميا ومنطقة بينيشاتغول ـ غوموز. ويواجه الأمن في البلاد الآن تهديدات خطيرة. كيف ولماذا حدث ذلك؟

على مدى عقود من الزمن، حددت عدة عوامل رئيسية لسلام إثيوبيا وأمنها. وهي: (أ) سيكولوجيا اجتماعية جماعية تقوم على استمرارية الدولة وقوتها. (ب) وصول تحالف الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية إلى السلطة عام 1991 ومناصرتها لقيام فيدرالية ثقافية مبنية على توافق الآراء. (ت) الإنجاز الاقتصادي الذي جلب شرعية الأداء الشعبية. (ث) دعم المجتمع الدولي.

خامسا، التهديد الذي تشكله القوى المعادية لإثيوبيا.

تضعضعت كافة الركائز، باستثناء الركيزة الأولى. وقد تعرضت وحدة القطاع الأمني على وجه الخصوص إلى التهديد. إذ تم تسييس القوى الأمنية (الجيش والشرطة الفيدرالية والإقليمية ووكالات الاستخبارات) وتأثر تماسكها بضعف العلاقة بين الحكومة الفيدرالية والولايات الإقليمية. وفي بعض الحالات، تطورت إلى مواجهات مسلحة، ما أدى إلى نشوب معارك في إقليمي تيغراي وأوروميا ومنطقة بينيشاتغول ـ غوموز وبعض أجزاء من ولاية أمهرة.

انشق الجيش منذ أن شارك في هجوم واسع على إقليم تيغراي، حيث تم تفريغ الجيش الفيدرالي والقطاع الأمني من ضباط ذلك الإقليم في الوقت الراهن. وتلقى جهاز المخابرات والأمن الوطني الإثيوبي الضربة الأعنف من العملية الإنتقالية. وتم شلّ حركته مؤسسيا. ونتيجة لذلك، لم يعد نطاق عمله كما كان في السابق. وترجع التحديات التي واجهت القطاع الأمني بصورة جزئية إلى العجز الحاصل داخل الحزب الحاكم المهيمن. إذ تمتعت إثيوبيا بسلام وأمن نسبيين تحت حكم حزب الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية المتماسك والذي يتمتع بإدارة حسنة، وكانت قوة الحزب الحاكم تنبع من مركزيته الديمقراطية التي ضمنت السيطرة على الولايات الإقليمية والقيادة غير المباشرة لها.

وشكلت شرعية أدائه من حيث ‬الإنجاز الاقتصادي والحماية الدستورية للمجتمعات الثقافية مصدرا إضافيا لقوته. لكن نظام الائتلاف القديم أصبح في الوقت الراهن ميتا أيديولوجيا ولا يمكن إنعاشه، وانتهت قدرته على العمل كركيزة للاستقرار والوحدة الوطنية. وفي حين أنشأت الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية نظم حماية قوية للمجتمعات الثقافية، وتمتعت بقدر قليل من شرعية الأداء، غير أن قاعدتها الشعبية المحدودة تفسّر افتقارها إلى درجة من الشرعية الشعبية. لذا، تميزت العقود الثلاثة الماضية باحتجاجات متكررة وارتبطت بزعزعة الاستقرار الاجتماعي. وكان من المأمول أن تجلب العملية الانتقالية لعام 2018 السلام والديمقراطية إلى البلاد، لكنها لم تفلح بذلك، ولم تحقق حتى الإنجاز الاقتصادي الذي تمتعت به إثيوبيا لعقود. بل ولّدت حروبا جديدة أكثر خطورة. علاوة على ذلك، احتدم التنافس على مياه نهر النيل مع مصر، كما ازدادت الضغوط الناتجة عن تنافس القوى العظمى بين الولايات المتحدة والصين في البحر الأحمر والقرن الإفريقي واليمن، الأمر الذي قوّض سيادة الدولة في المنطقة إلى حد كبير.

ثانيا: تجربة رواندا

الإنجازات الاقتصادية والسياسية

تمثل راوندا الدولة الأسرع نموا في إفريقيا. إذ لا توجد بقعة في القارة ظهر فيها أثر النمو الاقتصادي والتنمية بصورة جلية كما ظهر في رواندا. إذ يشكل انتقال البلاد التي نالت منها الحرب الأهلية وعمليات الإبادة الجماعية إلى دولة تنموية نموذجية، نجاحا إفريقيا باهرا يجب انتشار أخباره في مختلف أرجاء القارة. بعد انبعاثها من رماد الإبادة الجماعية التي تعرضت لها قبائل التوتسي عام 1994، تعرّض رواندا معظم سمات الدولة التنموية، وهي الاستقرار وهيمة الحزب الحاكم والقيادة الرشيدة، بالإضافة إلى جدول أعمال إنمائي تحولي وبيروقراطية عامة فعالة.

فمنذ عام 1994، بقي الرئيس بول كاغامي، الذي يشغل الآن الولاية الرئاسية الثالثة، وتبلغ مدتها 7 سنوات، زعيم الجبهة الوطنية الرواندية التي تسيطر فيها على أغلبية مطلقة. ومع التطلع للوصول إلى بلاد متوسطة الدخل بحلول عام 2035، أدت الاستراتيجية الوطنية الراوندية للتحول والتنمية الاقتصادية والحد من الفقر إلى زيادة في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 7.2% سنوية مع 5% منها لنصيب الفرد لأكثر من عقد حتى عام 2018. وفي العام 2019، بلغ النمو نسبة 10%. ويرجع هذا التطور بصورة أساسية إلى إنفاق القطاع العام الذي أدى إلى تحسن ملموس في مستويات المعيشة. ففي العقدين الماضيين، حققت الدولة التنموية في رواندا انخفاضا بمعدل 75% في إعداد الوفيات، وزيادة بمعدل الالتحاق بالمدارس الابتدائية وصل إلى 100%، كما انخفضت نسبة الفقر إلى 50%. وزاد متوسط العمر المتوقع عند الولادة من 29 عام في العام 1994 إلى 69 في العام 2019. بين أن الأداء الاقتصادي المذهل جاء على حساب الديون المتراكمة.

وتواجه رواندا أنواعا أخرى من التحديات التي عادة ما تواجه الدول التنموية. ويتعلق إحداها بالديمقراطية والانتقال السلمي للسلطة في نظام سياسي يهيمن عليه حزب حاكم. ومع غياب زعيم قوي في مركز النظام، قد تنزلق البلاد إلى حالة من الفوضى وزعزعة للإستقرار، كما حدث بعد وفاة ميليس زيناوي، مؤسس الدولة التنموية الإثيوبية. علاوة على ذلك، وكما هي الحال في دولة تنموية أخرى مثل إثيوبيا، تلعب المشاريع العامة وجهات القطاع الخاص التابعة للجبهة الوطنية الرواندية دورا حاسما في النمو الاقتصادي السريع وتتمتع بامتيازات اقتصادية، بما في ذلك إمكانية الحصول على العقود العامة.

ولقد صنّف تقرير مؤشر محمد إبراهيم للحكم الإفريقي رواندا في المرتبة الحادية عشرة من أصل 54 دولة في القارة احتل التوجه القطري لمدة عشر سنوات من 2006 إلى 2015 المرتبة السابعة. وقد احتلت رواندا المرتبة الرابعة من حيث الفرص الاقتصادية والعاشرة في التنمية البشرية، ما يؤكد على النمو الكبير الذي حققته. والدليل على التحديات السياسية الكبيرة التي تواجهها رواندا هي أنها تحتل المرتبة الحادية والثلاثين من حيث المشاركة السياسية والحقوق. أما من حيث الأمن وسيادة القانون فقد احتلت المرتبة الحادية عشرة. حيث تُعدّ رواندا أقل تنوعا من إثيوبيا. إذ قمعت الحشد السياسي على أساس عرقي إلى درجة أصبح معها التعبير السياسي المتعلق بالعرق محظورا. وهذا يعارض الضمان الدستوري لتقرير المصير والحكم الذاتي للمجتمعات العرقية في إثيوبيا.

انبعاث دولة تنموية من رماد الإبادة الجماعية

يمثّل التطور السياسي تركة التاريخ المأساوي للإبادة الجماعية التي تعرضت لها قبائل التوتسي عام 1994 والخطاب السياسي الذي سبقها. ويجب على مناقشات حالة وراندا أن تبدأ بالاعتراف بالتحديات الاستثنائية التي واجهتها البلاد في أعقاب الإبادة الجماعية لقبائل التوتسي عام 1994. إذ أطّرأت أحداث الإبادة الجماعية التنمية السياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية في رواندا. ومع وضع ذلك التاريخ في الاعتبار، لا يمكن اعتبار إعادة إحياء السياسة والاقتصاد وتنميتها أمرا بسيطالعمليتي إرساء الديمقراطية وبناء الدولة. ولا يخضع تاريخ رواندا الخاص والتطورات الأخيرة ببساطة لتقييم تقليدي لعمليتي إرساء الديمقراطية وبناء الدولة. فخصوصياتها التاريخية تجعل الاستقرار اللازم لتحقيق التنمية في البلاد على قدر من الأهمية يعادل الديمقراطية. ومن هنا تأتي أهمية الحكومة الفعّالة فاللافت للنظر، في هذه الظروف والخلفية الخاصة، أن رواندا تمكنت بعد عقدين فقط من التخلص من الأثار الاقتصادية الصعبة الناجمة عن الإبادة الجماعية، وأصبحت مثالا يحتذى لدولة تنموية إفريقية ناجحة.

إذ ليست الإبادة الجماعية حقيقة تاريخية تحدد مسار التنمية الإجتماعية السياسية فحسبت، بل هي حقيقة سائدة في الأجواء العامة أيضا. إذ يسيطر الخوف بصورة واسعة على أفق السياسات الرواندية. ففي دولة فقيرة وبتاريخ مضطرب، قد تتأزم ألاف القضايا. ويعد الخوف من صراع عرقي أمرا مفهوما، وللمخاوف من اضطراب الديمقراطية ما يفسّرها. وتبرّر نسبة كبيرة من الروانديين القيود التي تفرضها الحكومة على الديمقراطية وتعتبرها مشروعة وتناسب الوضع الراهن، نظرا لقلقهم من حدوث إبادة جماعية أخرى. نتيجة لذلك، يفضّل العديد من الروانديين وتقديم المنافع العامة على الديمقراطية، وهو موقف ناتج عن الخوف من السياسية، وسياسة الخوف.

وصحيح أن فرض القيود على بعض جوانب الديمقراطية في رواندا قد يكون مبرّرا أو حتى ضروريا. ففي أعقاب الإبادة الجماعية ودور الإعلام الذي أسهم في عمليات القتل، لا تزال القيود الصارمة على حرية التعبير، لا سيما حرية وسائل الإعلام، تشكّل توجّها سياسيا مؤسفا. كما اعتبر النقاد الولاية الرئاسية الثالثة لكاغامي غير مبرّرة من الناحية القانونية والمعتادة. فمنذ انتهاء الحرب الباردة، انتهت حقبة الرئاسات التي تدوم مدى الحياة في إفريقيا، ولا تزال مرفوضة شعبيا على نطاق واسع.

عيوب نموذج الدولة التنموية في حالتي إثيوبيا ورواندا

يبيّن هذان المثالان العيبين الأساسيين للدولة التنموية: المثال الأول، هيمنة الدولة بدل التعددية الديمقراطية ، المثال الثاني، وهو نتيجة للمثال الأول، ضعف مساءلة الحكومة التي تعتمد بصورة كبيرة على الرقابة الشخصية والحزبية، بدل المساءلة المؤسسية الديمقراطية. وفي كل من إثيوبيا ورواندا، كانت الدولتان التنمويتان فعالتين بتقديم الخدمات العامة والتنمية الاقتصادية (وإن كان ذلك أقل في مجالي السياسات والديمقراطية). نتيجة لذلك، تمتعت حكومتاهما بصورة عامة بشرعية الأداء. وقاد كلا البلدين حزب مهيمن، الأمر الذي يُعد في غاية الأهمية بالنسبة للدول التنموية.

وكانت الجبهة الوطنية الرواندية والرئيس بول كاغامي مركز التحول الذي طرأ على الاقتصاد الرواندي وعلى أمن البلاد، بينما كانت الجبهة الديقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية وزعيمها، ميليس زيناوي، مركز التحول. ويطلق البنك الدولي على هذا النموذج اسم الطريقة الإثيوبية“. وبغية توفير الخدمات التنموية، نظرت الجبهة الديمقراطية الإثيوبية والجبهة الوطنية الرواندية شرقا لاستلهام النموذج. ففي حين مثّلت اليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان وهونغ كونغ وتايلاند وإندونيسيا وماليزيا والصين الدول التنموية الرئيسية، قدّمت الصين وكوريا الجنوبية المخطط الملهم الذي أسست عليه الجبهة الديمقراطية الإثيوبية نموذجها الاقتصادي، مع بعض التعديلات في ضوء الخصائص التاريخية والثقافية لإثيوبيا بالإضافة إلى خصائص وطنية أخرى.

وأصبحت الدولتان التنمويتان في إثيوبيا ورواندا معاديتين بشراسة للمساءلة وسيادة القانون. ففي حين أن الديمقراطية، في المفهوم العام، مصممة للتعامل مع أوجه الاختلاف أكثر من التعامل مع أوجه التشابه، وتفترض إمكانية استبدال جميع المسؤولين والأحزاب، بما في ذلك الرؤساء والأحزاب الحاكمة، غير أن ممارسة السلطة في الدولة التنموية احتكارية. وكان لكل دولة تنموية حزب مهيمن ذو ميول استبدادية أو ماركسية في فترة ما من تاريخها. وبالتالي، يمكن للدولة التنموية قيادة حزب سياسي حاكميمارس سلطة الدولة كقوة مهيمنة واحتكارية. شأنها شأن إثيوبيا وزعيمها ميلي زينانوي، تُعرب رواندا بنموها الاقتصادي السريع ورئيسها، بول كاغامي، ذي الفترات الرئاسية الطويلة في البلاد. وقد وصفت العديد من المنابر الإعلامية الانتخابات في كلا البلدين بأنها سباقات الخيل الواحد، إذ قادها الحزبان الحاكمان المهيمنان: عرضت إثيوبيا تحت حكم زيناوي ورواندا تحت حكم كاغامي مساحة تشاركية لكنها لم تكن تنافسية. غير أن أحزاب المعارضة في الداخل والخارج اتهمت الحزبين الحاكمين وقيادتيهما في كلا البلدين بانتهاك حقوق الانسان وتضييق الخناق على المتنافستين على السلطة. وأعربت وسائل الإعلام الدولية ومنظمات حقوق الإنسان والهيئات الحكومية الدولية مثل الأمم المتحدة والإتحاد الأوروبي عن معارضتها لأسلوب الحكم في إثيوبيا ورواندا.

وتعد الدينامية والبراغماتية ركيزتين أساسيتين للدولة التنموية. ولكن مع توسع الطبقة الوسطى واشتداد المطالب الشعبية، فشلت الدولة التنموية في إثيوبيا في تلبية تلك المطالب. وأدّت الاحتجاجات التي أعقبت وفاة زيناوي، مؤسس الدولة التنموية في إثيوبيا، إلى تغيير القيادة التي فضّلت الفكر النيوليبرالي، الأمن الذي تسبب في انقسام داخل الحزب الحاكم. وفشل النظام الدستوري الإثيوبي في حل الخلافات داخل الحزب الحاكم، ما أدى إلى اندلاع حرب أهلية في البلاد. وعلى الرغم من أن التقدم التي أحرزته الدولة التنموية في إثيوبيا جدير بالثناء، إلا أنها تأخرت في إرساء الديمقراطية، الأمر التي تسبب في احتجاجات مستمرة تطورت لتصبح حربا أهلية في الوقت الراهن. وقد لا يختلف مصير رواندا ما لم تسرّع في إضفاء الديمقراطية إلى سياساتها.

هذا بالإضافة إلى المنافسة الجيوسياسية بين القوى العظمى في إفريقيا التي قد تؤثر على مصيرها. وقد تقدّم الحرب الأهلية الأخيرة في إثيوبيا دروسا لليبيا باعتبارها دولة تطمح إلى التنمية. حيث تبييّن الحاجة إلى نظام دستوري ديمقراطي قوي وموثوق مستوحى من سيادة القانون. إذ لا يمكن لأي حزب سياسي مهيمن أو قائد بارز استبدال ديمقراطية دستورية نشطة تمارس فيها السلطة بصبغة شرعية، فللأغلبية الحق في الحكم مع احترام حقوق الأقليات بالكامل. بالإضافة إلى أن المساءلة الديمقراطية، شأنها شأن التنمية الاجتماعية الاقتصادية، تزيد من التسامح في التنوع والتعددية.

ويّعد إرساء الديمقراطية بين المواطنين أمرا محوريا في زيادة مساءلة المسؤولين عبر المؤسسات الدستورية الديمقراطية. وعلى النقيض من ذلك، قد يعرّض التركيز على تحقيق الاستقرار بأي ثمن، التطورات الاجتماعية في المستقبل وحتى قوة الدولة إلى الخطر، سوف تزيد حاجة جيل ما بعد الحرب في ليبيا إلى قيادة تزدهر على أساس نشر الحرية، لا الخوف.

يتبع في الجزء الثالث

***

ميهاري تاديل مارو ـ أستاذ (دوام جزئي) في مركز سياسات الهجرة، ومنسق أكاديمي لبرنامج القادة الشباب من أفريقيا في كلية الحوكمة عبر الوطنية، المعهد الجامعة األوروبية؛ يشكر المؤلف الزملاء في برنامج مسارات الشرق الأوسط على تعليقاتهم ومساعدتهم في هذا البحث.

__________

المصدر: منصة الحوار الليبيتابعة لبرنامج مسارات الشرق األوسط في معهد الجامعة الأوروبية. يرمي المشروع إلى إقامة منتدى للحوار والتبادل بين القوى السياسية الرئيسية في ليبيا، والباحثين الليبيين والدوليين، والجهات الفاعلة الأساسية في المجتمع الدولي، بشأن سياسات أساسية لمستقبل ليبيا.

مقالات مشابهة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *