شكري السنكي
رحم الله وجهاً بشوشاً سمحاً، وشخصاً لا يُذكر اسمه إلاّ مقروناً بالخير والتقوى والعمل الصَالح والإعمار والرَّخاء.
رحم الله مَنْ أمطـرنا فرحـاً وزرع بدواخلنا الخيـر والاطمئنان، وأتـى وبصحبته البركــة والخيـــر.
رحم الله مَنْ كان رحيماً عطوفاً على أبناء أمته الِلّيبيّة، وكان أباً للصغير وأخاً للكبير ويحنو على الجميع حنو الأب.
رحم الله مَنْ جاء ليُشيع المحبة بين النَّاس ويؤلف القلوب ويجمع ولا يفرّق، ومَنْ عم الرَّخاء فِي سنوات عهده الميمون وضرب الأمن أطنابه فِي أرجاء الوطن المترامي الأطراف.
رحم الله مَنْ أيقن الِلّيبيّون أنهم ظلموه بعدما رأوا مِن بعده ظلماً عظيماً وقهراً مَا بعده قهر، وأن مَنْ جاؤوا بعده إِلى مواقع السّلطة وكرسي الحكم: كيف استبدوا وطغوا فِي الأرض ولم يرعوا حق الله فيهم.
رحم الله مَنْ كان كريم النفس، نظيف اليد، طاهر القلب، والّذِي امتاز بتواضعه الجَمِّ وحكمته وبصيرته الثاقبة الّتي كانت تستشرف المُسْتقبل.
رحم الله مَنْ أتته السّلطة فزهد فيها، ولم ينبهر يوماً بزخارف الدّنيا والجاه والسّلطان، وكان طوال حياته قدوة حسنة وأسوة صالحة.
رحم الله المَلِك الصَالح إدْريْس السّنُوسي قائد الجهاد، ومؤسس جيش التَّحرير ومؤسس دولة ليبَيا الحديثة، ومَنْ سيظل حيّاً فِي قلوبنا، وسنذكُره دائماً نحنُ والتاريـخُ والأجيالِ القادمـــة.
رحم الله مَنْ صان الأمانة وحفظ الوديعة وأوفى بالعهد فِي فترة مِن أصعب الفترات الّتي اجتازتها بلادنا الحبيبــة. واللَّهُـمَّ أنزله منزلاً مباركاً، وأنت خير المنزلين، وأنزله منازل الصدّيقين، والشّهداء، والصّالحين، وحسُن أولئك رفيقاً.
رحــم الله الإدريس وغفــر له وجعــل الجنّـة داره ومأواه.
***
اضبطوا الكلام!
أهذا يعقل يا سيِّد عزالدَّين عقيل ؟
أتاحت ثورة السّابع مِن فبراير لعزالدَّين عقيل وجميـع الِلّيبيّين على مختلف مشاربهم وانتماءاتهم، المساحة للظهور فِي الفضائيّات الإعلاميّة والتعبير عَن آرائهم في مختلف القضايا، بعد اثنين وأربعين عاماً من المنع والقمع والتنكيل والتعتيم ورفض أن يكون هُناك اسم متداول فِي ليبَيا غير اسم معمّر القذّافي، وقد كان جهاز استخبارات القذّافي به قسم خاصّ أو إدارة كاملة مهمتها مكافحة النجوميّة !!.
احتكر معمّر القذّافي ميكروفون التعبير ومنع غيره مِن البروز والظهور وخوَّن جميع مخالفيه، وسنّ القوانين الّتي تنزل أشد العقوبات على كل صاحب رأي أو مَنْ يحاول البروز والتأثير فِي الرَّأي العام.
لم يكن عزالدَّين عقيل قبل ثورة السّابع من فبراير، اسماً متداولاً أو له حضور فِي أي وسيلة من وسائل الإعلام، ولا كانت الفضائيات تعرفه. ولكن، بفضل ثورة السّابع من فبراير، جاءته الفرصة، وصارت القنوات الفضائيّة تستضيفه، وصار هُو يدلي بآرائه ويفتي فِي كلِّ شيء، والفضائيات تقدمه لنا بصفة «المحلّل السّياسي» فِي بعض الأحيان، وصفة «الباحث السّياسي الِلّيبيّ» أحياناً، و«رئيس حزب الائتلاف الجمهوري الِلّيبيّ» فِي أوقاتٍ أخرى. استضافته قناة العربيّة الحدث يوم 27 فبراير 2021م، فعك عقيل في هذا اللقاء وعجن فِي الكلام، وأطلق مِن الأوصاف مَّا لم يَأْتِ بِهَا أحد غيره، فوصف مَنْ استولى على السّلطة بانقلاب عسكري، وأعلن أنه ضدَّ مُسمّى الدولة، بأنه باني الدولة، معتبراً إياه أباً مِن الآباء المؤسسين !!، والأكثر إيلاماً، سواه بالمَلِك إدْريْس السّنُوسي قائد جيش التَّحرير وصانع الاستقلال والأب المؤسس لدولة ليبَيا الحديثة، ووضعه جنباً إلى جنب معه !!.
قال عزالدَّين عقيل لقناة الحدث: «قبل المَلِك إدْريْس السّنُوسي لم يكن هُناك وطـن، وقبل معمّر القذّافي لم تكن هُناك دولة !. معمّر القذّافي يُنظر إليه من قبل الكثيرين على أنه من الآباء المؤسسين !!. ينظر هؤلاء إليه أو يماثل عندهم عبدالناصر وبورقيبة، ولذلك نقول إن اقتلاعه كان اقتلاعاً مراً، لأن حسني مبارك وزين العابدين بن علي وصلا إِلى السّلطة بالتراتبية، أمّا القذّافي فكان أباً مؤسساً ولذلك هُناك مواجهات تحدث حتَّى الآن بسبب الولاءات الكثيرة له !؟».
ولاشكّ أن ما قلته يا سيِّد عقيل مخالفاً لما جرى وكان، فمعمّر القذّافي لم يكن أباً مؤسساً إلا للقتل والدسائس والمؤامرات والفوضى والتطاول والسطو وقلب قيم المجتمع وأصوله رأساً على عقب، وكيف يكون «باني دولة» وهُو مَنْ قاد انقلاب واستولى على السّلطة بقوّة السّلاح، وهُو القائل لن أتركها إلاّ بالسلاح !!؟؟.
وكيف يكون هُو «باني الدولة»، والدولة قبله كانت موجودة وتخرج هُو مِن كلياتها العسكرية وصار ضابطاً فِي عهدها، الدولة الّتي كانت دعائمها تترسخ، فِي عهد المَلِك إدْريْس، وكان بها دستور عصري يكفل حقوق المواطن وينظم شؤون الدولة، وكان دستورها الأفضل فِي المنطقة ومتقدماً فِي زمانه !!؟.
ورُبّما استطرد هُنا لأقول أن استمارات الاستبيان أو النماذج الخاصّة بالطلبة الدارسين فِي الخارج فِي عهد معمّر القذّافي، والموفدين للعلاج بالخارج على نفقة الدولة، كانت تشطب مِن النماذج الخاصّة بهما الفقرة المكتوبة فيها: «على نفقة الدولة»، ويكتب أعلى منها: «على نفقة المجتمع»، لأن القذّافي لم يكن يؤمن بالدولة ويرفض التحضر أي النمط الاجتماعي الحضري !!. أيعقل بعد ذاك أن يوصف شخصاً لا يؤمن بالدولة أساساً، بوصف «باني الدولة» !!؟.
والشّاهد، كان القذّافي يرفُـض النمط الاجتماعي الحضري، ولم يحدث دولة، إنّما دمّر إرثاً مهماً خلفه المَلِك إدْريْس، وقضى على دولة ناشئة واعدة حققت إنجازات عظيمة خلال سبعة عشر عاماً مِن عمرها، وفِي ظل إمكانيات محدودة جدَّاً فِي العشر السنوات الأولى، وكانت نموذجاً يحتذى به.
والدولة كانت قائمة قبل استيلائه على السّلطة بانقلاب الأوَّل من سبتمبر من العَام 1969م، ولولا وجودها مَا كان له أن يحكم، وها هي ثورة السّابع عشر مِن فبراير تعاني – وبعد عشر سنوات من إسقاط نظام القذّافي – وعاجزة حتَّى اللحظة على بسط سيطرتها كاملة وتثبيت أركانها وتحقيق أهدافها فِي إعادة بناء الدولة الّتي غيّبها القذّافي اثنين وأربعين عاماً، لأنها لم تجد شيئاً ووجدت فراغاً مَا بعده فراغ، فلا مؤسسات يمكن الاعتماد عليها فِي عمليّة إعادة البناء بما فيها الشرطيّة والأمنيّة، والجيش أيْضاً، فحتَّى الجيش النظامي الّذِي تأسس فِي عهد المملكة بعقيدة واضحة تتمحور حول الدولة الِلّيبيّة، ألغاه القذّافي واستبدله بمجموعات مسلحة وميليشيات موزعة بين أبنائه والمقربين منه، بغية تعزيز وتأمين قبضته خوفاً من انقلاب عسكري، وجعل عقيدة تلك الكتائب والميليشيات متمحورة حول شخصه وحمايّة أسرته وسلطته ونظامه.
جَمّدَ القذّافي العمل بالدستور بعْد الانقلاب مباشرة، وأعلن إلغاء النظام الملكي وقيام الجمهوريّة، وألغى العمليّة الانتخابيّة وكل المجالس الّتي تمثل الأمّة، ووضع السّلطة في يد مجلس كان يترأسه والمُسمّى بـ«مجلس قيادة الثورة» والمكون مِن اثنى عشر ضابطاً، ثم بدأ فِي خطّوات الاستفراد بالسّلطة والقرار حتّى صار كل شيء فِي يديه.
ألغى القذّافي الدولة التقليديّة مِن الأساس، بعدما صارت كل الخيوط في يده، وأعلن عَن إلغاء النظام الجمهوري «جمهوريّة» وقيام مَا سمّاه بالنظام الجماهيري «جماهيرية»، النَّظام الّذِي قال إنه أنهى نظام الدولة ليحل محله حكم الجماهير أو الشّعب، الشعب الّذِي يحكم مِن خلال المؤتمرات الشعبيّة واللّجان الشعبيّة، وكلتاهما كانت تقع تحت قبضة لّجانه الثوريّة الّتي كانت تأتمر لأوامره، وتتحرَّك وتبطش بتوجيهاته أو مجرَّد صدور إشارة منه.
لا يا سيِّد عقيل.. القذّافي لم يكن أباً مؤسساً بل كان مخرباً، وقد عبث بكيان دولة واعدة تشهد نمواً وتطوراً كبيرين، ولولا انقلابه الكارثة لكانت ليبَيا اليوم فِي مكانة أخرى، ونموذجاً يحتذى به.
لا يا سيِّد عقيل.. القذّافي لم يكن أباً مؤسساً ولا مِن الآباء المؤسسين، وكل علاقته بالأبوة أنه أبٌ للساعدي وباقي أشقائه، أما ليبَيا الدولة فلم تعرف أباً مؤسساً غير أبيها المَلِك إدْريْس.. أبا الدستور والدولة.
يا أبا الدستورِ والدَّولةِ مَن… يُنْكِرُ الشّمسَ بُزوَغاً ومَغِيَبا
كنُتَ فَجراً جَاءَ يَسْتَأمِننا… فقتلنَاهُ ولم يبلغْ شَبُوبا
وبَكينا بَعدَها غَفْلَتَنا… وعَناءً قد جرَعناهُ رَهِيَبا
• الأبيات المنشورة، أبيات مِن قصيدة: «يا أبا الدستور» للشّاعر راشد الزبير السّنُوسي. نُشرت هذه القصيدة لأوّل مرَّة ضمن سلسلتي عَن المَلِك إدْريْس السّنُوسي فِي ذكرى مرور ربع قرن على وفاته، الصّادرة تحت عنوان: «فِي السّياسَةِ والتّاريخ / المَلِك.. العقيد.. المُعارضة الِلّيبيّة فِي الخارج»، والمنشورة فِي موقع: «ليبَيا المُسْتقبل» بتاريخ يونيو 2008م. للاطّلاع على نص القصيدة كاملاً يُرجى الرجوع إِلى أرشيف الكاتب فِي الموقع المذكور.
***
الرَّعيل الأوَّل
محمّد الجوهـري.. قائم المقام والمتصرف والمدير والوكيــل (*)
محمّد علي رجب الجوهري، المولود بمدينة درنة سنة 1911م.. بدأ حيَاته موظفاً إدارياً صغيراً، ثم عين مديراً لمناطق عدة فِي ولايّة برقة: توكرة، الأبيار، المرج، إجدابيا. وشغل منصب قائم المقام فِي مدينة بّنْغازي، كمَا كان مديراً بمدينة البيضاء ضمن سبعة مديرين كبّار تولوا إدارة المدينة.
عُيّن متصرفاً ثانياً ثم متصرفاً أوَّل فِي مدينة بّنْغازي، ومنصب المتصرف كان وظيفة كبيرة، فالمتصرف يعين بأمر مِن السّلطان أو رأس السّلطة والحكم، ويرأس شؤون المتصرفيّة فِي ولايّة تنقسم إِلى عدد مِن المتصرفيات. كمَا عُيّن متصرف أوّل فِي مدينة طبرق «لواء طبرق».
ويُذكر أنه تمَّ اعتقاله وسجنه فِي «سجن الأبيار» مع مجموعه مِن الوطنيين قبل نهايّة الحرب العالميّة الثّانيّة بتهمة دعم ومساندة المقاومة ضدَّ المستعمر الإيطالي. وهرب مِن السجن هُو وبعض رفاقه بمساعدة مسعود بويصير والد صَالح وزير الخارِجِيّة الأسبق.. وصلوا للسّودان والحبشة وبقوا فيها حتّى هزيمة إيطاليا فِي الحرب، وكان مِن رفاقه الحاج السّنُوسي الأشهب.
وبعد عودته، أصبح مديراً لأملاك ولايّة برقة، ثمّ نُقل إِلى طرابلس وعُيّن مديراً عاماً للأملاك فِي عهد المملكة. وقبل أشهر مِن وفاته، عُيّن وكيلًا لوزارة الإسكان، ولكن المرض المفاجئ لم يمهله طويلاً.
تعرض لمرض الكُلى فغادر البلاد فِي مطلع العَام 1965م فِي رحلة علاجيّة إِلى لندن. وتُوفي بلندن أثر إصابته بحصى الكلى، وكانت عمليّة إزالة الحصى وقتئذ صعبة جدَّاً وتحتاج للفتح، وليست سهلة كمَا هُو الآن. توفي يوم 25 فبراير 1965م أثناء العملية، وبعْد محاولة الفتح الثانيّة.
كان محمّد علي رجب الجوهري مِن الموظفين المتميزين، ومِن الرَّعيل الأوَّل ضمن مجموعة الإداريين الّذِين اعتمدت عليهم ليبَيا فِي مراحل التأسيس بعْد إعلان الاستقلال. وكان طوال مراحل عمله فِي السّلك الحكومي نظيف اليد وطنياً مخلصاً فِي عمله، وقد استفاد مِن خبرته كل مَنْ عمل معـه. وظل الفقيد يؤدي عمله بِتفانٍ وإخلاص منقطع النظير، حتَّى أبعده المرض عَن عمله، فكان مثالاً للمدير والوكيل الناجح والمخلص الّذِي يتقي الله فِي عمله والمُحب والمخلص لوطنه، فعاش كريماً ومات عزيزاً.
رحمــه الله وغفر له وجعل الجنّة داره ومأواه.
بقلم: شكري السنكي
يوم الخميس الموافق 25 فبراير 2021م
*) المعلومات الواردة فِي هذا التعريف منقولة عَن الأستاذة آمال الجوهري «ابنة الفقيد» فِي بوست نشرته فِي صفحتها بالفيسبوك اليوم الموافق 25 فبراير 2021م بمناسبة ذكرى وفاة والدها السّادِسة والخمسين.
***
صالــــح بويصيـر
الذّكرى الثامنة والأربعون لاستشهاده، واستشهاد ركاب الطائرة الِلّيبيّة المغدورة على تراب سيناء
في الواحد والعشرين من فبراير سنة 1973م وبينما كانت طائرة مدنية لّيبيّة «الرحلة 114 من طراز – بوينغ 727» تحاول الهبوط بمطار القاهرة، انحرفت عَن مسارها الجوي واضطرت إِلى العبور عَن قناة السويس، فقامت طائرتين حربيتين إسرائيليتين مِن طراز «إف – 4 فانتوم» بمحاصرتها. حاصرتها ثم بادرت إِلى إطلاق صواريخ عليها أدَّت إِلى إسقاطها وقتل جميع ركابها «كان على متنها 113 شخصاً، 104 راكب وتسعة مِن أفراد الطاقم» ومعظم مَنْ كانوا عليها مِن الِلّيبيّين، باستثناء ثلاثة أشخاص كتبت لهم النجاة بمعجزة !!.
كان المرحوم صالح مسعود بويصير أحد الّذِين كتبت لهم الشهادة فِي تلك الطائرة المنكوبة. كان بويصير يومها عضواً بمجلس الأمّة الاتحادي الّذِي تشكل أثر قيام الوحدة بين مِصْر وسوريا وليبَيا. وكان قبلها وزيراً للخارِجِيّة والوحدة، فوزيراً للإعلام فِي حكومة النظام الجمهوري الّذِي بدأ قيامه بعد الانقلاب العسكري على النظام الملكي فِي الأوَّل مِن سبتمبر 1969م.
ويُذكر أن صالح بويصير كان قد نال الماجستير فِي الستينات فِي التاريخ مِن جامعة الأزهر عَن رسالته الخاصّة بجهاد شعب فلسطين، خلال نصف قرن. قال الدّكتور عبدالعزيز الشناوي، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة الأزهر، فِي ختام مناقشة رسالة بويصير: “لو أن اللوائح تعطي للماجستير درجة أعلى مِن الامتياز لاستحقها هذا البحث“.
طبعت الرسالة فِي كتاب، وبعد نفاذ الطبعة الأولى منه، أعادت «دار بويصير للنشر» طبع الكتاب. قدم لطبعة الكتاب الثانيّة، الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات بكلمة جيدة ومؤثرة جاء فيها: “وكمَا أن الشهيد حي يرزق فِي رحاب الله، فأن أعماله الطيّبة تظل حيّة متجددة مع الأجيال. وكتاب: «جهاد شعب فلسطين» الّذِي أعده الشهيد الرَّاحل للقرَّاء العرب هُو واحـد مِن أعماله الطيّبـة الخالد“.
ومجلّة «الميدان» الّذِي ارتبط شخصي أنا فاضل المسعودي رئيس تحريرها، بصداقة متينة مع مؤلف الكتاب المرحوم صالح بويصير، لم تجد أفضل مِن المشاركـة فِي إحياء ذكرى استشهاده، واستشهاد جميع ركاب الطائرة الِلّيبيّة المغدورة على تراب «سيناء» منذ خمس عشرة سنةً، وتكريم ذكراه، ودكراهم جميعاً العطرة من الإشادة بإعادة طبع الكتاب القيم وتقديمه لقرَّاء العربيّة، فِي هذه المرحلة الهامّة مِن تاريخ نضال الشّعب العربي الفلسطيني.
… رحم الله الشهيد صالـح مسعود بويصير رحمة واسعة، ومرحباً بإعادة طبع كتابه القيم عَن «جهاد شعب فلسطين» الّذِي يجيء فِي حينه، وتحيّة للجهد الكبير الّذِي بذل فِي سبيل ذلك.
بقـلم: فاضل المسعودي
مقتطفات مِن مقالة: «في ذكرى استشهاد صالح بويصير – جهاد شعب فلسطين»
بمناسبة الذّكرى الخامسة عشر لاستشهاد بويصير واستشهاد ركاب الطائرة الِلّيبيّة المغدورة على تراب سيناء
مجلّة «الميدان» – الطبعة الدّوليّة، «العدد الرَّابع»، السنة الأولـى
رجب/ شعبان 1409 هجري الموافق مارس 1989م
***
فِبْرَايـِر فِي ذكراها العاشرة
اندلعت ثورة السّابع عشر مِن فبراير، لأجل التخلص مِن الاستبداد والنظام المتخلف الّذِي حكم ليبَيا اثنين وأربعين عاماً، وتأثراً بما حدث فِي تونس أولاً ثم فِي مِصْر. خرج الِلّيبيّون إِلى الشوارع فِي فبراير من العَام 2011م وثاروا على حاكم منَّاعٍ لِّلخيرِمُعتدٍ أثِيمٍ، كان يدفع الطلبة إِلى شنق زميل لهم فِي فناء الجامعة.. وينصب المشانق لمعارضيه السياسيين فَي الميادين والسّاحات العامّة.. ويرسل فرق الاغتيال مِن لّجانه الثّوريّة إِلى عواصم العالم المختلفة لملاحقة المعارضين فِي الخارج وتصفيتهم جسدياً أينما كانوا، داخل بيوت الله أو فِي الأماكن العامّة.. وأمر سجّانيه يوم 29 يونيو 1996م بقتل نحو 1269 سجيناً مِن سجناء الرَّأي والمعترضين على سياساته، فحدثت الواقعة الدّاميّة الّتي عرفت بـ«مجزرة سجن أبو سليم».. والّذِي كان يصف معارضيه بـ«الكلاب الضالة».
خرج الِلّيبيّون إِلى الشوارع وثاروا على حاكم كان يعتبر الوطن مزرعة خاصّة له ولأولاده، وكان لا يحب أن يسمع إلاّ صدى صوته، ولا يسمح بتاتاً بالعمل الحزبي معتبره خيانة عظمى عقوبتها الإعدام في ظلِّ سياسة شعارها: «مَنْ تحزب خان».
ثاروا على حاكم كان يعتبر الانتخابات بدعة وضلالة وتزييفاً للدّيمقراطيّة، ويعتبر التمثيل النيابي كذباً وتدجيلاً !!. حاكم ألغى الصحافة الأهليّة بموجب قرار أصدره فِي العَام 1972م، وزج بالعديد مِن المفكرين والأدباء والكُتَّاب والصحفيين فِي السجن بحجج مختلفة منذ إعلان النقاط الخمس فِي خطاب زوّارة في 15 أبريل 1973م – الخطاب الذي عُرف بـ«الثورة الثقافيّة»، وهي الثورة الّتي ألغت القوانين المعمول بها والنظم الإداريّة المتعارف عليها وكانت المتكأ والمنطلق للعبث بكلِّ مظاهر الحيَاة الثقافيّة فِي ليبَيا.
واعتمد سياسة تجويع الشّعب وإفقاره لأجل إحكام السيطرة عليه، وأصدر قرارات تلو القرارات الّتي تمَّ بموجبها مصادرة أموال الليبيّين وممتلكاتهم الخاصّة، وإلغاء النشاط الاقتصادي الخاصّ، وفقاً للنص الوارد في الفصل الثّاني من كتابه الأخضر الّذِي اعتبر الربح نوعاً مِن أنواعِ الاستغلال.
ثاروا على حاكم عربيد قاصر الفهم، فكر يوماً أن يلغي العملة ويعود بالِلّيبيّين إِلى عصر المقايضة، وهداه تفكيره يوماً والّذِي يزعم أنه «اشتراكي»، بدعوة الِلّيبيّين إِلى زراعة الخضر فوق أسطح المنازل وشرفات العمارات، وتربية الدواجن داخل الشقق لتحقيق الاكتفاء الذّاتي، وفرض على كلِّ أسرة شراء قفص مِن الحديد يسع قرابة أربع أو خمس دجاجات !، ليكتفي كلِّ منزل ذاتياً مِن حاجته إِلى البيض واللحم، وعلى هذا النحـو كان ينظر إِلى «نظرية الاكتفاء الذّاتي» !!.
ثار النَّاس فِي السّابع عشر مِن فبراير على حاكم متعجرف كان يتلذذ بحرمان الِلّيبيّين وإذلالهم، لدرجة أنه أصدر أمراً فِي مرحلة ما بعدم استيراد الأحذية، ودعا كل شخص تقطع حذاؤه إِلى ترقيعه وخياطته، وقال أن الِلّيبيّين محتاجون إِلى «خرازين» وليسوا بحاجة إِلى أحذية جديدة، وكيف لهم أن يكلفوا خزانة الدولة الملايين، على أشياء لا تستحق !!.
وكان يتلذذ بإهانة الِلّيبيّين واستحقارهم، لدرجة أن الأمر وصل به أن يقطع بث التلفزيون كلما شاهد شيئاً لا يعجبه أو علم أن النَّاس مجتمعون حول شاشات التلفاز لمتابعة شيء يحبونه، ليضع حذاءه على كبر الشاشة فِي وجه المشاهدين، أيّ وجوه كافة الِلّيبيّين !!.
هذا مَا دعا الِلّيبيّين إِلى الثورة، ومَا يدعونا ونحن نحيي الذّكرى العاشرة للثورة، التأكيد على أن الثورة كانت ثائراً لكرامة كل لّيبيّ وسعياً لنيل الحريّة واسترداد الحقوق. وكانت حاجة ماسّة وضروريّة، ومطلباً شعبياً لكلِّ الِلّيبيّين، وساعةً انتظرها الجميع بفارغ الصبر، وقد سبقتها تضحيّات جسام ومحاولات فرديّة وجماعيّة بغيّة التخلص من حاكم متخلف مستبد اختصر الوطن فِي شخصه وفِي قرار يصدر عنه. وكانت لحظّة مفصليّة فِي تاريخ ليبَيا، والخطوة الأهم فِي طريق الوصول إِلى الدولة المدنية الدّستوريّة القائمة على صندوق الاقتراع.
هدفت فبراير إِلى إسقاط الدّكتاتور وإنهاء نظام حكمه، وأتمت مهمتها بنجاح تام، وتركت تحقيق الطموحات والآمال والتطلعات على عاتق كافـة النَّاس.
ونجحت ثورة فبراير نجاحاً باهراً فِي تحقيق هدفها المتمثل فِي إسقاط الطاغيّة الّذِي كان متمسكاً بعودة المجتمع الِلّيبيّ إِلى العصر الحجري، وسلمت الرايّة أو الأمر إِلى كافة النَّاس ليواجهوا الثورة المضادّة ومخلفات ثقافة همجية كان عنوانها الإقصاء والرقص على جثث أصحاب الرَّأي والعلم والمعرفة، وشعارها: «سير وﻻ تهتم يا قائد وصفيهم بالدّمّ»، و«ما نبوش كلام لسان نبو شنقه فِي الميدان».
ومَنْ يحاول اليوم تحميل ثورة فبراير، وزر الفشل والتدهور والانقسام والانفلات الأمني الذي يُهدد وحدة البلاد واستقراره، ووزر مَا هُو جارٍ مِن تدخلات خارِجِيّة والمرتزقة الّذِين يسرحون ويمرحون فِي طول البلاد وعرضها، يخلط الأمور، ويتجاهل الثورة المضادة، ويتغاضى عَن التآمر الخارِجِي، ويتغافل عَن إرث ثقيل تركه نظام متخلف حكم البلاد بفوضوية لم ير العالم مثيلاً لها عبر العصور.
ثورة فبراير لا تنتظر منا اليأس والاستسلام، وتؤكد لنا أن طريق الثورات طويل وشائك، وأنه يحتاج للصبر ليحقق أهدافه الكاملة. وأن ليبَيا تنتظر منا جميعاً إدراك المخاطر والتحديات، والتغلب على كافة المشاكل والعراقيل والمؤامرات، واستكمال المسير نَحْو النًّصر الكامل، كمَا فعلت شعوب أخرى، عبر التاريـخ.
أخيراً، أجد نفسي مضطراً لأختم كلامي بنفس مَا ختمت به مقالتي فِي ذكرى فبراير السَّادِسَة، فأقـول: «ليبَيا اليوم تنتظر منا جميعاً تصحيح المسار ومعالجة الأخطاء واستكمال المسير نَحْو النًّصر الكامل، والتغلب على الفتن والفرقة، وتجاوز كل العراقيل وكافـة العقبات والمشاكل الّتي تعترضنا، وأن نكون مدركين أن التّاريخ سيحاسبنا إنَّ لم نحسن النهايات كمَا أحسنا البدايات».
«الجماهيريّة» لن تعـود مؤكداً.. وحتماً ستنتصر فبراير، وإن طال المطاف.
والعبــرة لمَـنْ يعتبر
كـل عـام وحبنـا للوطـن أكبـر، وكـل عـام والوطـن بخيــر وســلام
يوم الأربعاء الموافق 17 فبراير 2021م
***
____________
المصدر: صفحة الكاتب على الفيسبوك