دياب أبو جهجه

تتعدد التسميات التي لها دلالة على طبيعة أنظمة الحكم في العالم، من الديمقراطية أو حكم الشعب الى الأوتوقراطية أو الحكم الاستبدادي والثيوقراطية أو الحكم الديني الى البيروقراطية والارستقراطية والتكنوقراطية. أما في بلادنا العربية فنظام الحكم الاكثر انتشارا هو الكليبتوقراطية.

والكليبتوقراطية كلمة تتكون من شقين قراطية التي هي تعريب كلمة كراسيا اليونانية التي تعني الحكم و كليبتو وهي كلمة يونانية تعني السرقة.

ومن هنا بامكاننا ترجمة الكليبتوقراطية بحكم اللصوص. وتتستر الانظمة الكليبتوقراطية في بلادنا تارة بصبغة ديمقراطية جمهورية وحينا بصبغة أرستقراطية ملكية أو ثيوقراطية دينية أو أوتوقراطية ايديولوجية شمولية ولكن هذه الصبغات لا تعدو كونها عناوين فضفاضة للحكم الكليبتوقراطي السائد من المحيط للخليج.

و لكن ما يعنينا هنا هو تبيان سمات هذا النظام السائد في بلادنا وكيفية عمله.

السمة الأولى من سماته هي وجود ما نستطيع تسميته بطربوش الحكم وهو قد يكون الملك أو الرئيس او حتى حكومة أو وزارة والطربوش يشكل عنوان النظام ورمزه ويكون فوق كل اعتبار وفوق كل شبهة.

طربوش الحكم هذا هو الذي يدير اللعبة ويلعب دور الحكم بين الطبقة الكليبتوقراطية الحاكمة.

وتحت الطربوش يقع راس النظام الكليبتوقراطي المكون من كبار اللصوص وهم يشكلون مركز الثقل في النظام ويده الضاربة وهم الذين يحرصون على ديمومته لأنهم المستفيد الاكبر منه.

وهذا الرأس بحاجة للطربوش لكي يغطيه ويحميه من شمس الحقيقة ومن الانكشاف كما أن الطربوش بحاجة الى الرأس لكي لا يسقط وليستند اليه، وهنا تنشأ علاقة مزدوجة بين طربوش الكليبتوقراطية أي كان وبين رأس النظام المكون من مافيا اللصوص الكبار. ويستطيع الرأس اذا ما اقتضى الأمر تغيير الطربوش واستبدال ملك بآخر وزعيم بزعيم ورئيس برئيس ولكن من الصعب جدا بل شبه المستحيل على الطربوش أن يقطع الرأس لانه يعرف بانه لو فعل ذلك لسقط وانتهى دوسا بين الاقدام.

وبعد الرأس هنالك أطراف النظام أي الاذرع التي تسرق والأقدام التي تتحرك والقبضات التي تدافع عن كيان النظام اللصوصي. وهي مستفيدة ايضا وتدين بوجودها ومواقعها وامتيازاتها للرأس وتحمي الرأس باسم حماية الطربوش والنظام.

هذه باختصار البنية الداخلية للنظام الكليبتوقراطي في بلادنا العربية ونكاد لا نجد بلدا عربيا واحدا يشذ عن هذه القاعدة بشكل عام.

وكلنا يعرف قصص اقتصاد الكباري او الجسور في أحد أكبر البلدان العربية حيث توزع المنح الأجنبية على كبار اللصوص من خلال بناء الجسور وتسجيل فواتيرها بشكل مبالغ فيه. فاذا ما كلف جسر مئة الف تسجل كلفته بعشرة ملايين. فترى عاصمة ذلك البلد تعج بالجسور العشوائية العديمة النفع بينما ازمة المواصلات فيها خانقة الى أقصى حد.

ونفس القصة تتكرر في ذلك البلد العربي الأخر الجميل والساحر حيث يفتتح الطربوش المشروع تلو الآخر بمحاولة منه لخلق شعور بالتقدم بين المواطنين وبالتباين مع نهج الطربوش السابق وتصل الكهرباء الى القرى النائية وتدشن الطرق فاذا بالشتاء يهطل ويجرف الطرق والبيوت ويتبين أن كل شيء معمول بأقل كلفة ممكنة وأعلى فاتورة ممكنة.

وفي نفس الوقت تحول المافيا الكليبتوقراطية الحاكمة في ذلك البلد وطنها الى مركز عالمي للسياحة الجنسية يتخطى تايلاند وتدير صناعة دعارة بقيمة مليارات الدولارات، وحتى انها تصدر ضحاياها من بنات الفقراء والمساكين اللواتي تحول جمالهن الى نقمة بدل أن يكون نعمة والى سلعة في يد ذئاب المافيا الكليبتوقراطية الحاكمة، تصدر الى بلاد العرب قاطبة.

ناهيك عن تلك الأقطار العربية التي تحكمها مافيات من الجنرالات الذين يتقاسمون الكعكة مع المستثمرين الاجانب في قطاع النفط والغاز،

أو تلك التي تحكمها أسر عشائرية تهيمن على نفطها ومقدراتها وتحمي نفسها من خلال قواعد أجنبية وجيوش اجنبية.

أو تلك البلدان التي تحكمها أحزاب وحركات ايديولوجية المنشأ تحولت الى مافيات طائفية أو قبلية.

أو ذلك البلد السليب الذي تحول ثواره الى مدراء منظمات غير حكومية تعتاش من المعونات الغربية التي لا تصل الا الى جيوبهم وتحول الثوار السابقون الى نخب مالية كليبتوقراطية تتاجر بحقوق شعبها من أجل التواجد على مائدة المحتل ومن يدعمه والأكل من فتات مساعداته.

أو ذلك الابن البار لبلد صغير آخر الذي عاد ليبني بلده حسب ما أعلن بعد حرب أهلية فاذا بديون ذلك البلد تقفز من الصفر الى 40 مليار دولار بقدرة قادر وثروة ذلك المحسن تقفز من 3 مليارات الى 14 مليارا خلال فترة حكمه للبلد. واذا به يشتري كل شيء فيه ويتاجر بكل شيء ويصر محبوه على انه محسن وعلى أنه عمر البلد بعد الحرب.

أربعون مليار دولار من الدّين الداخلي منها قسم كبير لمصارف يملكها هو فاتورة ذلك الاعمار الذي لا يتعدى حي راق في وسط المدينة يملـكه هو ومطار دولي أقل من عادي وطريق سريع يكاد يكون فيه بين الحفرة والحفرة حفرة ثالثة.

السؤال الملح هنا هو كيفية الخروج من هذا النظام الكليبتوقراطي وتفرعاته؟

أولا لا بد من أن نعي بأن هذا النظام هو وليد ظروف موضوعية اهمها المنظومة الفكرية السلطوية التي تهيمن على مجتمعنا والتي يتم تبريرها من خلال مفاهيم غيبية للحاكمية ولولاية الامر من جهة ومن خلال شعارات ثورجية أو حداثية فارغة من اي مضمون فعلي من جهة مقابلة.

يضاف الى هذا القابلية المعرفية لانتاج القمع والتسلط التي تعكس قرونا من الحكم الاستبدادي الأجنبي بدءاً من المماليك الاتراك والقوقازيين الذين تقاسموا الامبراطورية العباسية وصولا الى الحكم العثماني ومن ثم الى مرحلة الاستعمار، وهذه الحقبات خلقت عند المواطن العربي قدرية تجاه نظام الحكم تجعله يعتبر أنه من الطبيعي جدا أن يكون هذا النظام غريبا عنه معاديا له ناهبا لثرواته وتكونت بالتالي عند العربي عقلية تعتبر المشاركة في لعبة السرقة تلك تشاطرا على النظام السارق والغريب وهكذا ينتج الفساد فسادا.

أضف الى ذلك المنظومة السياسية التي قامت في بلادنا بالتوازي مع التجزئة السياسية للوطن العربي الى كيانات مصطنعة وظيفتها ابقاء هذه الأمة ضعيفة وغير قادرة على مقاومة النهب الخارجي لمقدراتها ولأرضها من قبل الاستعمار الصهيوني والامبريالية.

وتناغمت هنا مصالح الطبقات والنخب الكليبتوقراطية مع مصالح الاستعمار الصهيوني والامبريالية في ابقاء الشعب العربي مقسما وجاهلا ومهمشا وهذا يسهل مهمة هذا الحلف الشيطاني من اللصوص الداخليين والطامعين الخارجيين الذين يتشاركون في نهب ثرواتنا وهدر طاقاتنا.

و تعيش الطبقة الوسطى العربية وهي القادرة على انتاج المشاريع التغييرية في كنف هذا النظام وتعتاش من فتاته وتتطبع معظم أحزابها وقواها بطبعه وتتحول هكذا القوى التغييرية ذاتها الى قوى فاسدة يسودها الصراع الداخلي على النفوذ والسلطة وادارة الموارد وبالتالي تعجز عن قيادة عموم المواطنين من أجل تغيير للنظام.

وشخصية السياسي العربي عموما والمناضلين المدعي الثورية خصوصا هي شخصية مشروع طربوش للمفسدين واللصوص لأن فهم السياسة في بلادنا ومرادفها أصبح اعادة انتاج النسق الكليبتوقراطي تحت صيغ مختلفة ومتعددة ومرارا وتكرارا.

هذا هو واقعنا المرير أما الخروج منه فلا يكون الا من خلال انتاج نخب ثورية نقية تكون سمتها الأولى نكران الذات وتدرك طبيعة عدوها الخارجي والداخلي وتعمل من أجل استئصال المرض من جذوره وقطع رأس النظام وليس فقط الاطاحة بطربوشه.

وهنا تجربة لا تزال ماثلة أمامنا عندما أطاح الشعب بالطربوش ولكنه لم يدرك الا متأخرا بأن مافيا الارستقراطية الكليبتوقراطية يجب أن يتم القضاء عليها سريعا وعندما أدرك ذلك كان الاوان قد فات وكانت هذه المافيا قد حولت نفسها الى طبقة جديدة تهيمن على الأطر التي أنشأها وترفع شعارات الثورة بينما تكرس النظام الكليبتوقراطي في نفس الوقت.

هنالك حقيقة تاريخية يجب أن نعيها، وهي أن الثورة الفرنسية لم تستخدم المقصلة عبثا ولرغبة سادية في نفس قادتها، كان لا بد من أن تتدحرج رؤوس ليبزغ من بعد ذلك فجر المواطنة والدولة الحديثة.

***

دياب أبو جهجه ـ كاتب من لبنان

____________

عن موقع تعليقات أبو جهجه

مقالات مشابهة

1 CommentLeave a comment

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *