مكي المغربي

لم يكن تعليق نظام المقايضة بين النفط والوقود في مصلحة ليبيا. فمنذ إيقافه، تراكمت على المؤسسة الوطنية للنفط ديون غير مسددة تجاوزت المليار دولار نتيجة واردات الوقود، مما تسبب في تهديد مباشر لإمدادات الطاقة وأثّر سلبًا في الاقتصاد الوطني. واليوم، في ظل تصاعد التوترات الإقليمية، تواجه ليبيا فترة حرجة ومعقدة.
الصراع بين طرابلس وبنغازي على السيطرة على قطاع النفط والمؤسسات العامة يُعَدُّ عاملًا رئيسًا في اتخاذ قرارات اقتصادية حساسة، بما في ذلك إلغاء نظام المقايضة، الذي لم يكن قرارًا ذا طابع اقتصادي صرف، بل كان في جوهره قرارًا سياسيًا بامتياز. وقد جرى الترويج لإلغاء النظام بدعوى ارتفاع التكاليف ووجود شبهات فساد، في حين أن هذه التكاليف ارتفعت بالتزامن مع تقلبات أسعار النفط العالمية خلال الفترة من 2022 إلى 2024، نتيجة الحرب في أوكرانيا وتداعيات جائحة كورونا.
مع أن قرار ديوان المحاسبة بإيقاف آلية المقايضة قد انطلق من نية إصلاحية، إلا أن نتائجه جاءت عكسية، حيث شهدنا تراجعًا كبيرًا في استقرار واردات الوقود. وكان بالإمكان معالجة الخلل باستبعاد الوسطاء غير المسجلين والجهات السياسية التي كانت تستغل النظام، بدل إلغائه بالكامل.
لقد أتاح نظام المقايضة استيراد الوقود مقابل تصدير النفط الخام من دون حاجة إلى دفع فوري، وكان هذا الأمر حيويًا في ظل أزمة السيولة وانهيار البنية التحتية للتكرير. وكان النظام – رغم عيوبه – بمثابة صمّام أمان حال دون الانهيار الكامل لمنظومة الطاقة في البلاد.
لكن اليوم، ومع اضطرار المصرف المركزي لتغطية النفقات العامة في كل من طرابلس وبنغازي، أصبحت المؤسسة الوطنية للنفط مفصولة فعليًا عن عائداتها، وعادت تواجه صعوبات في سداد ثمن الواردات. ونتيجة لذلك، لم تُسدَّد مستحقات الموردين، وتعطلت العقود، وتعرضت الخدمات العامة للخطر.
ويحدث ذلك تزامنًا مع ارتفاع أسعار النفط عالميًا نتيجة تصاعد الصراع في الشرق الأوسط، ما يجعل أي تأخير في الشحنات أكثر كلفة. وتخسر ليبيا في الوقت ذاته فرصًا لبيع نفطها بأسعار مرتفعة، نتيجة تعطل قطاعها النفطي.
أزمة الوقود الحالية باتت تؤثر على إنتاج الكهرباء، والنقل العام، وسلاسل الإمداد الأساسية. ويأتي هذا في وقت حرج، إذ تتراوح أسعار خام برنت بين 80 و90 دولارًا للبرميل، مع مخاطر حقيقية لتفاقم الأزمة، لا سيما إذا تأثرت الملاحة في مضيق هرمز، الذي يمر منه نحو 20% من إمدادات النفط العالمية، وهو ما قد يدفع الأسعار لتتجاوز حاجز الـ100 دولار للبرميل.
في هذا السياق، تزداد حساسية ليبيا تجاه الأسعار العالمية، وأي تأخير في إعادة هيكلة منظومة توريد الوقود الداخلية سيؤدي حتمًا إلى مزيد من التضخم والاختناقات اللوجستية.
وبينما يُطرح نظام المقايضة كآلية مؤقتة، فإنه يظل الخيار الأكثر واقعية وفعالية في الوقت الراهن. ويمكن إحياؤه بطريقة شفافة وخاضعة للرقابة، من خلال تشكيل لجنة إشراف، واعتماد مناقصات علنية، وإجراء تدقيق مستقل من طرف ثالث، بالإضافة إلى عملية صارمة لاختيار الموردين المؤهلين. وسيُكتب لهذا النظام النجاح إذا استُبعدت الجهات غير الرسمية والمُسيسة، وتعزز دور الشركات ذات السمعة المهنية الموثوقة.
لكن في نهاية المطاف، لا بد أن تنتقل ليبيا إلى نظام استيراد يستند إلى خطابات اعتماد مضمونة من عائدات نفطية موثقة. ولا يمكن تجاهل فجوة التكرير المحلية التي ظلت طويلاً نقطة ضعف أساسية في القطاع النفطي الليبي. ما لم تُرفع كفاءة المصافي المحلية، ستظل البلاد رهينةً للاعتماد على الخارج.
كما أن ملف دعم الوقود يحتاج إلى معالجة جدية، إذ لم يعد من الممكن الاستمرار في نظام دعم غير مستدام، خصوصًا مع ارتفاع الأسعار العالمية بفعل الأزمات الإقليمية.
ثمة تطور إيجابي يُمكن البناء عليه؛ ففي 21 يونيو، عقد النائب العام الصديق الصور اجتماعًا مغلقًا مع محافظ مصرف ليبيا المركزي ناجي عيسى، ورئيس المؤسسة الوطنية للنفط مسعود سليمان، لمناقشة آثار توقف نظام المقايضة. هذه فرصة حقيقية لإعادة إطلاق نسخة محسّنة من النظام، تكون خالية من التجاذبات السياسية التي أفسدته سابقًا. وجود سجلات موثقة، وموردين معتمدين، وتدقيق خارجي مستقل، سيكون أساسًا لإعادة الثقة وضمان تدفق الوقود وخفض الديون التي تصاعدت بعد تعليق النظام مطلع العام الجاري.
يمكن للشركاء الدوليين، مثل البنك الدولي، تقديم الدعم الفني، لكن المسؤولية الأكبر تقع على عاتق المؤسسات الليبية، التي يجب أن تتكاتف لإعادة تفعيل البرنامج بشكل مدروس. فالنظام لم يفشل لأنه كان نموذجًا خاطئًا، بل تعثّر بسبب غياب تفعيل أدوات الرقابة والشفافية والمحاسبة. معالجة هذه الثغرات، بدلاً من التخلي عن البرنامج بالكامل، هو السبيل الأوضح لتحقيق الاستقرار على المدى القصير، والإصلاح الحقيقي على المدى البعيد.
***
مكي المغربي – كاتب متخصص في الإقتصاد والشئون الإفريقية
______________