أحمد الخميسي
على طول الساحل الغربي والحدود الجنوبية لليبيا، يتواصل تهريب الوقود في واحد من أكثر الأنشطة ربحاً في اقتصاد الظل، ليتحوّل خلال السنوات الأخيرة إلى شريان مالي أساسي يعيد تشكيل موازين القوة بين الأطراف المتنافسة ويعمّق الأزمة الاقتصادية في بلد يمتلك أكبر احتياطيات نفطية في أفريقيا.
خبراء اقتصاديون يرون أن موارد التهريب أصبحت أداة قوة تُستخدم في التفاوض السياسي وإعادة تشكيل التوازنات داخل المؤسسة الوطنية للنفط، كما تتيح للأطراف المسلحة تعزيز مواقعها على الساحة العسكرية. فكلما اتسعت المساحة التي تتحكم فيها جهة ما في مسارات تهريب الوقود، ارتفع وزنها السياسي وقدرتها على فرض شروطها.
اعتماد الدعم الحكومي للوقود منذ عقود، إلى جانب ضعف الرقابة وتضخم الإنفاق العام والانقسام المؤسسي، خلق بيئة مناسبة لانتشار التهريب. وتشير تقارير إلى أن السيطرة على نقاط التهريب تحولت إلى امتياز لقوى عسكرية نافذة، تستخدم هذه التجارة لتعزيز مواقعها داخل مؤسسات الدولة، وفق منظمة “سينتري“.
في الغرب، تدير مجموعات مسلحة شبكات تهريب بحرية من الزاوية وزوارة ومصراتة، بينما أصبح صدام حفتر الفاعل الرئيس في خطوط التهريب شرقاً وجنوباً نحو السودان وتشاد.
وفي هذا الصدد، قال الخبير النفطي حسين الصديق لـ“العربي الجديد” إن واردات الوقود ارتفعت من 20.4 مليون ليتر يومياً إلى أكثر من 41 مليون ليتر، وهو رقم “لا يتناسب مع الاستهلاك المحلي ولا مع بيانات الحركة الاقتصادية“. وأضاف أن “هذه الفجوة تشكّل أحد أكبر منافذ التهريب في البلاد، وتحوّلها الأطراف المسلحة إلى أحد أهم مصادر تمويلها“.
تشير تقديرات “سينتري” إلى أن ليبيا تخسر نحو 6.7 مليارات دولار سنوياً بسبب تهريب الوقود، فيما تجاوزت الخسائر التراكمية خلال ثلاث سنوات 20 مليار دولار.
ويعود جزء كبير من هذه الخسائر إلى اعتماد آلية المقايضة بين النفط الخام والوقود المستورد منذ 2021، والتي سمحت بدخول كميات ضخمة لا يمكن تتبّعها بدقة. منظمة “سينتري” هي مؤسسة غير ربحية تحقيقية وسياسية تتابع الأموال المشبوهة التي تموّل النزاعات المسلحة والفساد العالمي، بهدف تعطيل الشبكات متعددة الجنسيات التي تستفيد من الصراع والنهب والفساد.
ويؤكد الباحث في اقتصاديات النزاعات نورالدين بن عمران لـ“العربي الجديد” أن السيطرة على مستودعات التوزيع ومسارات الشاحنات والطرق الساحلية “أصبحت مورداً سياسياً بحد ذاته“، مضيفاً أن بعض المجموعات توظّف أرباح التهريب لشراء الأسلحة أو ضمان الولاءات داخل الإدارات المحلية.
وفي الساحل الغربي، يصف مسؤول سابق في إدارة التسويق بالمؤسسة الوطنية للنفط لـ“العربي الجديد” الوضع بأنه “شبكة موازية تملك نقاط مراقبة خاصة بها وتنسّق مباشرة مع بعض السفن الأجنبية في البحر“، مؤكداً أن ضعف المؤسسات سمح بتحول التهريب إلى منظومة متكاملة تتجاوز قدرة الدولة.
ورأى الخبير المالي صبري ضو أن تهريب الوقود أشبه بضريبة خفية تُفرض على المواطن، موضحاً أن الليبي “يدفع ثمن الدعم مرتين: مرة من خزينة الدولة، ومرة من خلال ارتفاع الأسعار وتآكل القيمة الحقيقية للدعم“. وأضاف لـ“العربي الجديد” أن النشاط لم يعد محلياً فحسب، بل أصبح “جزءاً من شبكة اقتصادية إقليمية تغذّي صراعات خارج الحدود الليبية“، مشيراً إلى امتدادها جنوباً نحو السودان وتشاد، وشمالاً نحو مالطا وإيطاليا.
ويقول الخبير الاقتصادي محمد أنبية لـ“العربي الجديد” إن استمرار هذه الخسائر يعني أن نحو نصف واردات الوقود لا تصل إلى المستهلك النهائي أو محطات توليد الكهرباء، بل تتحول إلى سيولة نقدية تتوزع بين مجموعات مسلحة وشبكات تهريب منظمة، ما يعكس أثراً مزدوجاً على الاقتصاد الوطني: فقدان موارد مالية مهمة وارتفاع تكلفة الخدمات الأساسية، مع تعزيز قوى الظل داخل الاقتصاد الليبي.
ورغم ضخ الأموال السنوية لدعم الوقود، يعاني المواطنون من نقص متكرر في البنزين وارتفاع أسعار النقل وكلفة السلع الأساسية. كما يسهم التهريب في زيادة الطلب على العملة الصعبة لشراء الوقود من الخارج، ما يضغط على الاحتياطي الأجنبي ويضعف الدينار في السوق الموازية.
وتشير تقارير دولية إلى وصول كميات من الوقود الليبي المهرّب إلى أسواق مالطا وإيطاليا، فيما استفادت منه وحدات روسية ناشطة في الساحل والصحراء، كما تعتمد قوات الدعم السريع السودانية على إمدادات من الجنوب الليبي لإدامة الحرب في دارفور.
وتوصي المؤسسات الدولية بإعادة هيكلة دعم الوقود وتفعيل منظومات التتبع الإلكتروني، لكن الانقسام السياسي والضغوط المحلية يعوقان أي إصلاح.
ويقول الخبير الاقتصادي حسين البوعيشي لـ“العربي الجديد” إن كل طرف في هذه البلاد يخشى خسارة نفوذه في حال تغيير نظام الدعم القائم حالياً والمعتمد من السلطات منذ سنوات، الأمر الذي يجعل الإصلاح مساراً مؤجلاً“، مستخلصاً أن معالجة التهريب تتطلب “إعادة بناء منظومة الدعم، وتوحيد المؤسسات، وتفعيل رقابة حقيقية على عمليات الاستيراد“.
______________
