تسليح عابر للحدود
أظهرت تحقيقات صحفية، أبرزها ما صدر عن وكالة “رويترز” في يوليو/ تموز 2024، تنفيذ أكثر من 80 رحلة شحن جوية من الإمارات إلى مطار أمدجاراس في تشاد، القريب من الحدود السودانية.
وأكدت الوكالة أن بعض هذه الرحلات “ربما حملت معدات عسكرية” وصلت لاحقاً إلى قوات الدعم السريع، رغم نفي أبوظبي ذلك، وتأكيدها أن جميع الرحلات كانت “مساعدات إنسانية“.
كما ذكرت صحيفة “الغارديان” البريطانية في سبتمبر/أيلول 2024، أن الإمارات استخدمت شركات واجهة مسجلة في تشاد وأفريقيا الوسطى لتوفير دعم لوجستي غير مباشر لقوات حميدتي، مستفيدة من فراغ المراقبة الدولية في المناطق الحدودية.
وأشار تقرير الصحيفة إلى أن “الهدف الإماراتي، ليس الانخراط العسكري المباشر في السودان، بل بناء نفوذ اقتصادي وأمني طويل المدى عبر السيطرة على خطوط التجارة والذهب في دارفور، ما جعلها لاعباً إقليمياً مؤثراً في مسار الصراع السوداني“.
مصر.. بين حفتر والبرهان
في حين أن مصر لديها علاقات مباشرة مع السلطة في الشرق الليبي التي يقودها حفتر، إلا أنها لا تدعم حليفه في السودان محمد دقلو “حميدتي“، بل إنها تدعم الجيش السوداني. وفي الوقت الذي تعد فيه القاهرة حليفاً للبرهان في السودان، فإن حليفها حفتر في ليبيا يقدم دعماً مباشراً إلى قوات حميدتي الذي هو في حرب مع الجيش السوداني.
وفقاً لتقرير وول ستريت جورنال (أكتوبر 2023)، قدّمت مصر دعماً عسكرياً محدوداً تضمن طائرات مسيّرة تركية من طراز Bayraktar TB2، بإشراف فني مصري، وذلك “لحماية حدودها الجنوبية، ومنع تمدد المليشيات المسلحة“.
كما أشار تقرير لجنة الخبراء التابعة للأمم المتحدة (S/2024/987)، إلى أن القاهرة لعبت دوراً لوجستياً لدعم الجيش السوداني، معتبرة أن هذا الإجراء يدخل في نطاق الأمن القومي المصري، وليس في إطار تدخل مباشر في النزاع.
الباحث في الشؤون السياسية والاستراتيجية وقضايا الأمن القومي والإرهاب، منير أديب، قال لـ“عربي بوست“، إن “الموقف المصري من الحرب السودانية يستند بالدرجة الأولى إلى اعتبارات الأمن القومي، وليس إلى رغبة في الانخراط في الصراع الإقليمي بشكل مباشر“.
وأوضح أن “الجيش السوداني بالنسبة لمصر يمثل الضمانة الأساسية لاستقرار الحدود الجنوبية، ومن ثم فإن دعم القاهرة له يأتي في إطار حماية المجال الحيوي المصري ومنع تمدد الجماعات المسلحة والمليشيات الموالية لقوات الدعم السريع نحو الشرق والبحر الأحمر“.
وأشار أديب إلى أن “القاهرة وأبوظبي تتفقان في كثير من الملفات الإقليمية، خاصة في ليبيا، غير أن المشهد السوداني كشف عن تباين واضح في أولويات البلدين“. وأوضح أنه “بينما ترى الإمارات في حميدتي حليفاً اقتصادياً يمكن الاستثمار فيه مستقبلاً عبر تجارة الذهب والموانئ، تنظر القاهرة إلى البرهان باعتباره الامتداد الطبيعي للمؤسسة العسكرية الرسمية التي تضمن توازن القوى في الإقليم“.
وأضاف أن “هذا التباين لا يعني بالضرورة صداماً سياسياً بين الطرفين، لكنه يكشف حدود التنسيق بينهما، حيث تتعامل كل دولة مع الصراع من زاويتها الخاصة؛ فالإمارات تركز على النفوذ الاقتصادي وشبكات المصالح العابرة للحدود، في حين تنظر مصر إليه من منظور الأمن القومي وحماية استقرار الدولة الوطنية“.
كما حذّر أديب من أن تشابك الملفات بين ليبيا والسودان يجعل الجنوب الليبي أكثر عرضة للاختراق الأمني، خاصة مع استمرار تدفق السلاح والمقاتلين عبر الحدود المشتركة، مشددًا على أن أي فوضى في السودان ستنعكس بالضرورة على ليبيا، والعكس صحيح.
واختتم حديثه بالتأكيد على أن الحل في السودان لا يمكن أن يكون عسكرياً، وأن استمرار دعم الأطراف الإقليمية لأذرعها داخل الصراع سيُطيل أمد الحرب ويُهدد استقرار المنطقة بأكملها، داعياً إلى تنسيق دولي جاد لوقف خطوط الإمداد العسكرية والاقتصادية العابرة من ليبيا وتشاد إلى السودان.
اقتصاد النفوذ والملاذ المالي
المحلل السياسي الليبي أشرف الشح، قال لـ“عربي بوست“، إن “دعم حفتر لقوات حميدتي تم عبر قنوات إماراتية استخدمت الممرات الجوية والبرية الليبية، خصوصاً من الكفرة والمنطقة الشرقية، لنقل العتاد والتمويل إلى السودان“. وأضاف أن “علاقة حفتر بالإمارات ذات طابع مالي بالأساس، إذ تمثل أبوظبي الملاذ الآمن لأموال حفتر وعائلته، من خلال شركات وحسابات مصرفية أبرزها شركة أركنو“، على حد قوله.
ويرى الشح أن مصر تجد نفسها “في موقف حرج“، فهي “حليف للإمارات في الملف الليبي لكنها على الجانب الآخر في السودان، لذلك تحاول خلق توازن داخلي في معسكر الشرق الليبي، مائلة نحو خالد حفتر، أكثر من صدام حفتر المنخرط بشكل مباشر في الملف السوداني“، على حد قوله.
“تراجع الدور المصري“
السفير عبد الله الأشعل، نائب وزير الخارجية المصري الأسبق، قال لـ“عربي بوست“، إن “مصر اليوم ليست في موقعها الطبيعي داخل الإقليم، فالأزمات المتشابكة في ليبيا والسودان وسوريا هي نتيجة مباشرة لتراجع الدور المصري الذي كان يمثل نقطة التوازن في المنطقة“.
وأضاف أن “انسحاب القاهرة من موقع القيادة بعد اتفاقية كامب ديفيد فتح الباب أمام دخول أطراف إقليمية جديدة تعاملت مع الفراغ العربي وكأنه فرصة لتوسيع نفوذها على حساب الأمن القومي المشترك“. وأشار إلى أن “التدخلات الخارجية في ليبيا تعكس غياب الإرادة العربية الجامعة، بينما تبقى القاهرة الطرف الأكثر تضرراً من استمرار الفوضى هناك“.
وأكد الأشعل أن “أمن السودان وليبيا هو في جوهره أمن مصر القومي، وأن أي خلل في هذين الملفين ينعكس مباشرة على الحدود الجنوبية واستقرار الداخل المصري“. ورأى أن “ما تحتاجه مصر اليوم ليس الانخراط في الصراعات، بل العودة إلى موقعها كقوة توازن عربية، تتحرك وفق رؤية شاملة تحفظ استقرار المنطقة، وتمنع تمدد القوى الخارجية خصوصاً إسرائيل وبعض القوى الإقليمية التي أصبحت فاعلاً أساسياً في المشهد“.
الجنوب الليبي… الممرّ الخفي في حرب السودان
أكد تقرير Small Arms Survey في أكتوبر/تشرين الأول 2023، أن وحدات تابعة لما يُعرف بـ“الفيلق الروسي الأفريقي” أعادت تموضعها في قاعدة معطن السارة الواقعة بأقصى الجنوب الشرقي الليبي قرب المثلث الحدودي مع السودان وتشاد، ما سمح بتحكّم شبه مباشر في طرق التهريب عبر الصحراء.
الخبير الأمني والعسكري عادل عبد الكافي، قال لـ“عربي بوست“، إن ما يجري في الجنوب الليبي لا يمكن فصله عن الصراع الدائر في السودان، موضحاً أن الانقسام العسكري والسياسي في ليبيا خلق فراغاً أمنياً واسعاً استغلته شبكات التهريب والجريمة المنظمة، فضلاً عن المجموعات المسلحة العابرة للحدود التي باتت تتحرك بحرية بين ليبيا وتشاد والسودان.
وأوضح عبد الكافي أن قاعدة معطن السارة الواقعة في أقصى الجنوب الشرقي، قرب المثلث الحدودي بين ليبيا وتشاد والسودان، تحولت إلى قاعدة محورية تستخدمها أطراف متعددة، بينها مجموعات محلية ومرتزقة أجانب، لتمرير الأسلحة والذخائر والذهب نحو السودان. وأضاف أن مطار الكفرة والقاعدة الجوية في المدينة أصبحا جزءاً من خط الإمداد اللوجستي باتجاه قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي.
وأشار عبد الكافي إلى أن روسيا تسعى إلى إعادة تأهيل قاعدة معطن السارة الجوية لاستخدامها مركزاً متقدماً لـ“الفيلق الروسي الأفريقي“، الذي حل محل مجموعة فاغنر، في إطار سعيها لتثبيت وجود عسكري طويل الأمد في منطقة الساحل والصحراء. وأوضح أن هناك تنسيقاً مباشراً بين موسكو وخليفة حفتر، لضمان السيطرة على المنطقة الغنية بالذهب وطرق التهريب الاستراتيجية.
وقال إن “الإمارات متهمة بأنها تلعب دوراً اقتصادياً محورياً في هذه المنظومة من خلال تمويل عمليات تهريب الذهب من السودان، التي تمثل مصدراً رئيسياً لدعم قوات الدعم السريع“. وأوضح أن “الإمارات متهمة أيضاً بأنها تعتمد على شركات وهمية ووسطاء محليين لتصدير الذهب السوداني عبر طرق غير شرعية تمر من الكفرة والجنوب الليبي إلى موانئ خارج الرقابة الدولية“.
عملة الحرب: الذهب والوقود
ترتبط الحرب في السودان إلى اقتصاد موازٍ للحرب الدائرة ومتشابك معها، يمتدّ من مناجم الذهب في دارفور إلى الصحراء الليبية، مروراً بتشاد والنيجر. تشير تقديرات صحيفة الصيحة السودانية إلى أن ما لا يقل عن 2.3 مليار دولار من الذهب السوداني تم تهريبه خلال عام 2024 عبر مسارات غير رسمية تمرّ من الجنوب الليبي.
كما أوضح تقرير لجنة خبراء الأمم المتحدة المعنية بليبيا في يونيو/حزيران 2024، أن خسائر ليبيا من تهريب الوقود المدعوم تتجاوز 900 مليون دولار سنويًا، نتيجة شبكات منظمة تربط بين ليبيا والسودان وتشاد. وأوضح التقرير ذاته، أن الجنوب الليبي أصبح محوراً رئيسياً في شبكة تهريب الوقود المدعوم، بخسائر سنوية تقدّر بأكثر من 900 مليون دولار من ميزانية الدولة الليبية، تُعاد تدويرها في عمليات تمويل المليشيات وشراء الولاءات.
ووفق تقرير الأمم المتحدة، تُدار هذه التجارة عبر شبكات معقّدة تشمل وسطاء محليين ورجال أعمال من ليبيا والإمارات وتشاد، وتعمل بمبدأ “الدفع بالذهب أو الوقود“، أي أن عائدات تهريب الوقود الليبي تُستخدم لشراء الذهب السوداني الذي يُهرّب لاحقاً إلى الخارج عبر موانئ غير خاضعة للرقابة الدولية. وأكد أحد الباحثين في “Small Arms Survey” إنّ ما يجري ليس مجرّد تهريب، بل “إدارة اقتصادية موازية تستخدم أدوات الدولة نفسها – الضرائب والنقل والتأمين – لكن خارج سلطتها بالكامل“.
هذه المنظومة، كما يصفها التقرير، تمثل اليوم “شريان التمويل غير الرسمي” الذي يطيل أمد الصراعات في كلٍّ من السودان وليبيا على حدٍّ سواء، ليصبح الذهب والوقود ركيزتين في “اقتصاد الحرب” الذي يموّل أطراف النزاع داخل السودان وخارجه، وهو ما يحافظ على التوازن في العلاقات بين الدول الإقليمية رغم اختلاف مواقفها من دعم أطراف الحرب في السودان.
ومن خلال سيطرته على الجنوب الليبي، يمتلك حفتر أوراقاً مالية ولوجستية تمكّنه من التأثير في المعادلة السودانية، بينما تغضّ القوى الإقليمية الطرف عن هذا الدور، طالما أنه يخدم توازن النفوذ بين القاهرة وأبوظبي وموسكو، بحسب التقرير ذاته.
مراقبة حذرة وتضارب في الحسابات
وبينما تتشابك المصالح الإقليمية في السودان وليبيا، تتابع القوى الدولية المشهد بحذر، إذ أشار تقريرٍ صدر عن القيادة الأمريكية في إفريقيا (AFRICOM) في فبراير/شباط 2025، إلى أن واشنطن “ترصد عن كثب النشاط الروسي في الجنوب الليبي“، محذّرةً من تحوّل المنطقة إلى نقطة ارتكاز لعمليات الفيلق الروسي الأفريقي الداعم لمصالح موسكو في الساحل.
وأشار التقرير إلى أنّ استمرار تهريب الذهب والسلاح عبر الحدود الليبية–السودانية “يهدد الأمن الإقليمي ويقوّض جهود الاستقرار في شمال إفريقيا“.
من جانبها، أعربت المفوضية الأوروبية في بيانٍ مشترك مع فرنسا وإيطاليا (مارس 2025) عن قلقها من “تزايد الأنشطة الاقتصادية غير الشرعية في الجنوب الليبي“، ودعت إلى تشديد الرقابة على تجارة الذهب والوقود التي تموّل أطراف النزاع السوداني. أما الأمم المتحدة، فحذّرت في تقرير لجنة الخبراء بشأن ليبيا والسودان في أبريل/نيسان 2025، من أنّ “تشابك خطوط الإمداد بين البلدين جعل من ليبيا مركزاً لوجستياً لصراعات خارج حدودها“.
بالتالي، فإنه بينما تحاول الولايات المتحدة احتواء النفوذ الروسي في الجنوب الليبي، تستفيد الإمارات ومصر من الفراغ الأمني لتعزيز نفوذهما، في حين تقف أوروبا أمام معضلةٍ مزدوجة، هي أمن الطاقة في الجنوب، والهجرة في الشمال.
وفي مايو/أيار 2025، أعلنت الحكومة السودانية قطع علاقاتها الدبلوماسية مع الإمارات متهمةً إياها بـ“دعم المليشيات المتمرّدة“، بينما نفت أبوظبي تلك الاتهامات بشدة، مؤكدة أن كل أنشطتها “ذات طابع إنساني“.
وفي سبتمبر/أيلول 2025، أعلنت واشنطن والرياض وأبوظبي والقاهرة مبادرة مشتركة لوقف الحرب وإطلاق “خريطة طريق للسلام في السودان“، وهو ما عرف باسم مسار الآلية الرباعية الدولية.
وفي 12 سبتمبر/أيلول 2025، دعت الآلية الرباعية التي تضم مصر والسعودية والإمارات والولايات المتحدة، في بيان مشترك، إلى هدنة إنسانية أولية لـ3 أشهر بالسودان، لتمكين دخول المساعدات الإنسانية العاجلة لجميع المناطق تمهيداً لوقف دائم لإطلاق النار.
يلي ذلك، إطلاق عملية انتقالية شاملة تُستكمل خلال 9 أشهر، سعياً لإقامة حكومة مدنية مستقلة تحظى بالشرعية. وأعلنت “قوات الدعم السريع” موافقتها على “الانضمام إلى الهدنة الإنسانية” التي اقترحتها دول “الرباعية“. ولم تذكر “الدعم السريع” تفاصيل عن بنود الهدنة وآلية تنفيذها.
في المقابل، رفض رئيس مجلس السيادة الانتقالي بالسودان عبد الفتاح البرهان، أي “هدنة أو سلام” مع قوات الدعم السريع ما لم تتخل الأخيرة عن سلاحها. ويشهد السودان منذ أبريل/ نيسان 2023، حربا دامية بين الجيش و“قوات الدعم السريع” أسفرت عن مقتل عشرات الآلاف وتشريد نحو 13 مليون شخص.
ومن أصل 18 ولاية بعموم السودان، تسيطر قوات الدعم السريع حالياً على جميع ولايات إقليم دارفور الخمس غرباً، عدا بعض الأجزاء الشمالية من ولاية شمال دارفور التي لا تزال في قبضة الجيش، الذي يسيطر على معظم مناطق الولايات الـ13 المتبقية في الجنوب والشمال والشرق والوسط، بينها العاصمة الخرطوم.
وإلى جانب ولاية شمال دارفور، تشهد كذلك ولايات إقليم كردفان الثلاث (شمال وغرب وجنوب)، منذ أيام، اشتباكات ضارية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، أدت إلى نزوح عشرات الآلاف مؤخراً.
_____________