إبراهيم الأصيفر

تعيش ليبيا اليوم واحدة من أكثر مراحلها السياسية تعقيداً منذ سقوط نظام معمر القذافي عام 2011، إذ تقف البلاد عند مفترق طرق جديد يحدد مصيرها بين خيارين متناقضين: استمرار الانقسام القائم، أو انطلاق مسار جاد نحو بناء دولة موحدة ومستقرة.

مشهد منقسم ومشهد مأزوم

منذ أكثر من عقد، تعيش ليبيا انقساماً سياسياً حاداً بين سلطتين تنفيذيتين؛ حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس برئاسة عبد الحميد الدبيبة، وحكومة الاستقرار الوطني في الشرق المدعومة من البرلمان وقوات المشير خليفة حفتر.

هذا الانقسام ترك أثره العميق على مؤسسات الدولة التي باتت تعمل في مسارين متوازيين، ما جعل القرار السيادي الليبي رهيناً للتجاذبات الداخلية والخارجية.

في العاصمة طرابلس، تصاعدت خلال الأشهر الأخيرة حدة التوتر بعد اشتباكات بين مجموعات مسلحة، ترافقت مع احتجاجات شعبية واسعة تطالب بتغيير الحكومة وإجراء انتخابات عامة. ورغم محاولات التهدئة، فإن سيطرة الميليشيات على المشهد الأمني ما زالت تمثل العقبة الأكبر أمام أي تحول سياسي حقيقي.

أما في الشرق، فيسود استقرار نسبي تحت سلطة الجيش الوطني، غير أن ذلك الاستقرار لا يخلو من صبغة عسكرية واضحة، تجعل المشهد هناك قائماً على القوة أكثر من التوافق المدني.

النفط والسياسة وجهان للأزمة

تُعد الثروة النفطية محور الصراع الأبرز في ليبيا، إذ يتنازع الطرفان على إدارة العائدات والتحكم في موارد الدولة.

ويحذر خبراء من أن استمرار هذا التنازع قد يؤدي إلى شلل اقتصادي يهدد بتفاقم الأوضاع المعيشية في مختلف أنحاء البلاد.

كما أن التوظيف السياسي للنفط جعل من الاقتصاد أداة ضغط متبادلة بين الشرق والغرب، بدلاً من أن يكون محركاً للتنمية والتوحيد.

تدخلات خارجية تزيد المشهد تعقيداً

لم تكن الأزمة الليبية يوماً شأناً داخلياً فحسب، إذ تحولت البلاد إلى ساحة صراع نفوذ بين قوى إقليمية ودولية.

تدعم بعض الدول الحكومة في طرابلس سياسياً وعسكرياً، فيما يساند محور آخر معسكر الشرق لأسباب تتعلق بالأمن الإقليمي والمصالح الاقتصادية.

هذه التدخلات المتداخلة ساهمت في تأجيل الحل الليبي–الليبي، وجعلت القرارات الوطنية رهينة توازنات خارجية دقيقة.

إرهاق شعبي ومطالب بالتغيير

بعد سنوات من الوعود المؤجلة والاتفاقات غير المكتملة، يشعر المواطن الليبي بإرهاق سياسي ومعيشي متزايد.

الشارع الليبي بات أكثر وعياً بحاجته إلى قيادة جديدة قادرة على تحقيق الاستقرار والخدمات الأساسية، بعيداً عن الصراعات الشخصية والولاءات المناطقية.

هذا المزاج الشعبي المتململ قد يشكل في المستقبل القريب عاملاً ضاغطاً لدفع العملية السياسية نحو التغيير.

السيناريوهات المحتملة للمستقبل

1. نجاح التسوية وإجراء الانتخابات

يُعد هذا السيناريو الأكثر تفاؤلاً، حيث تتفق الأطراف الليبية على تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية تؤسس لمرحلة انتقالية موحدة.

تحقيقه يتطلب تنازلات متبادلة، وضمانات أمنية تمنع انزلاق البلاد إلى الفوضى، ودعماً دولياً متوازناً يضمن نزاهة العملية السياسية.

2. استمرار الانقسام والجمود

السيناريو الواقعي الأقرب في المدى القصير يتمثل في بقاء الوضع على ما هو عليه، مع استمرار الحكومتين وتبادل النفوذ بين الشرق والغرب.

هذا المسار يعني مزيداً من التدهور الاقتصادي، وتآكل الثقة الشعبية في مؤسسات الدولة، واستمرار معاناة المواطن الليبي اليومية.

3. تصاعد المواجهة المسلحة

في حال فشل جهود الوساطة وتصاعد الصراع بين الفصائل، قد تتجدد الاشتباكات على نطاق واسع، خصوصاً في مناطق الغرب والجنوب.

ورغم أن احتمالات هذا السيناريو ضعيفة حالياً، فإن غياب أي حل سياسي فعلي قد يجعله وارداً في المستقبل القريب.

أفق التحول الإيجابي

رغم قتامة المشهد، فإن فرصة العبور إلى مرحلة الاستقرار لا تزال ممكنة إذا توفرت إرادة سياسية حقيقية تضع مصلحة الوطن فوق الحسابات الفردية.

إعادة توحيد المؤسسة العسكرية، وتفكيك الميليشيات، وضمان إدارة شفافة للثروات الوطنية، تمثل ركائز أساسية لأي مشروع وطني ناجح.

كما أن التنسيق الدولي والإقليمي يجب أن يُبنى على احترام القرار الليبي، لا على فرض الوصاية عليه

ليبيا تقف اليوم أمام منعطف تاريخي حاسم: إما أن تواصل الدوران في حلقة الانقسام والفوضى، أو أن تفتح صفحة جديدة نحو الاستقرار والبناء.

المستقبل الليبي لن تحدده البيانات أو المؤتمرات، بل قدرة الليبيين أنفسهم على تجاوز خلافاتهم وصياغة مشروع وطني جامع، يعيد للدولة هيبتها، وللمواطن كرامته، وللبلاد مكانتها التي تستحقها في المنطقة والعالم.

***

إبراهيم الاصيفر باحث في الشؤون السياسية، ويختص في تحليل المشهد الليبي والإقليمي، مع تركيز على قضايا الحوكمة والتحولات في الأنظمة السياسية.

_______________

مقالات مشابهة