أسامة علي
كثف اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر في الأسابيع الأخيرة لقاءاته مع قادة قبليين من مختلف أنحاء ليبيا، بالتزامن مع اقتراب انطلاق المسار الذي أعلنت عنه البعثة الأممية والمعروف بـ“الحوار المهيكل“، خلال الشهر الجاري.
هذا الحوار يستهدف إشراك القادة المجتمعيين في العملية السياسية الرامية إلى الوصول إلى إجراء انتخابات عامة في البلاد، ويعد هذا “الحوار المهيكل” أحد أهم بنود خريطة الطريق الأممية الأخيرة، إذ يهدف إلى كسر احتكار النخب السياسية والعسكرية لصنع القرار.
وذلك من خلال فتح حوار سيجري بالتوازي مع اجتماعات مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة الموكل إليهما إنجاز المرحلة الأولى الخاصة بتعديل مجلس مفوضية الانتخابات والقوانين الانتخابية، وسيضمّ هذا الحوار ممثلين عن القبائل والمجتمع المدني “لتقديم توصيات سياسية” بشأن الاقتصاد والأمن والحكومة والمصالحة الوطنية.
وعقد حفتر لقاءات متتالية مع وفود قبلية، بدأها بقيادات قبيلة من شرق وجنوب ليبيا مطلع أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وفي 26 من الشهر ذاته التقى قادة القبائل من المنطقة الوسطى، وأمس التقى قيادات من ترهونة جنوب شرق العاصمة.
وحملت خطاباته في تلك اللقاءات شعارات متقاربة في المضمون واللغة، ففي لقائه بالقيادات من ترهونة قال إنّ قواته “ليست هي من يتخذ القرار الحاسم بشأن الأزمة السياسية، بل تقف دائماً إلى جانب الشعب الليبي في خياراته“.
مضيفاً أن “كل من يتصدى لإرادة الشعب واختياراته سيجد نفسه في مواجهة هذه القوات“، وقال إن قواته التي وصفها بـ“الجيش” هي من “ستضمن أي اتفاق يجمع الليبيين تحت مظلة وطنية موحدة“، كما أشاد بترهونة التي قال إنها “دفعت ثمناً باهظاً جرّاء انحيازها للقوات المسلحة ومعركة الكرامة“، في إشارة إلى مشاركتها السابقة في عدوانه المسلح على طرابلس عام 2019.
وخلال كلمته أمام قادة قبائل المنطقة الوسطى، قال حفتر إنّ “أي حل للأزمة الليبية يجب أن يكون نابعاً من الإرادة الشعبية ومدعوماً بتوافق القبائل“، داعياً إلى “مرحلة جديدة متطورة في معالمها وطبيعتها ومتميزة بكونها وليدة حراك شعبي واسع، تقوده القوى الوطنية الحية وفي طليعتها شيوخنا وحكماؤنا الأفاضل“.
أما خلال لقائه وفود قبائل شرق وجنوب البلاد، أكد أن “الحل لن يأتي من الخارج، وأن المجتمع الدولي لم يقدم لليبيا سوى المراحل الانتقالية“، داعياً القبائل إلى “صياغة خريطة طريق ليبية خالصة ترتكز على الشرعية المحلية“، ورفض ما وصفها بـ“الخريطة التي نُسجت خيوطها وراء الحدود“.
واللافت أن حفتر اختار مدناً ووفوداً ذات رمزية خاصة، فترهونة كانت أحد أهم معاقله في الغرب قبل أن تخسر نفوذها إثر انكسار عدوانه المسلح على طرابلس، وقد يحمل لقاؤه بقياداتها رسالة بأنه ما زال يملك امتدادات اجتماعية هناك.
أما لقاءات الجنوب والمنطقة الوسطى فتبدو محاولة لتجديد الولاءات في مناطق يوجد فيها طيف قبلي واسع يوالي أنصار نظام القذافي السابق، ولا سيّما نجله سيف القذافي، في مسعى لإنتاج صورة تربط تلك الأجزاء من البلاد بقواته.
وعلى الرغم من الولاء الظاهر، فإن البنية العميقة لقبائل الشرق لا تزال تحمل في ذاكرتها مواقف راسخة من حفتر، مثل قبيلة العواقير، المتنفذة شرق بنغازي وداخلها، التي أقصاها بعد أن كانت تشكل قوام قواته خلال إطلاقه “عملية الكرامة” عام 2014.
فقبيلة العواقير تتهمه بالمسؤولية عن مقتل أحد أبرز ضباطها العقيد المهدي البرغثي في أكتوبر الماضي، والأمر ذاته بالنسبة لقبيلة الدرسة التي تعتبر أن حفتر مسؤول عن اختفاء ابنها النائب إبراهيم الدرسي، علاوة على قبائل العبيدات والمرابطين الأكثر ولاءً لرئيس مجلس النواب عقيلة صالح.
أما في الجنوب، فالوضع أكثر تعقيداً، فقبائل القذاذفة و المقارحة لا تزال أقرب إلى معسكر النظام السابق، بينما يشعر التبو والطوارق بالتهميش بعد أن استخدمهم حفتر لسنوات في معاركه.
وفي الغرب حيث يغلب الطابع الحضري، فإنّ ترهونة نفسها لا ترتبط به ارتباطاً وثيقاً بعد المذابح التي خلفتها مليشياته، خصوصاً الكانيات المسؤولة عن مجازر ومقابر جماعية.
تجارب مؤلمة مع حفتر
وفي قراءته لهذا الحراك، أكد أستاذ علم الاجتماع السياسي، عز الدين التواتي، أن “الذاكرة المحلية” للقبائل التي منحت ولاءها لحفتر “لا تزال مثقلة بتجارب مؤلمة”.
“فبعد أن كانت تشكل خزاناً بشرياً لعملياته القتالية طيلة سنوات طويلة، أقصى أبنائها من الضباط الكبار واستبدلهم بأبنائه الذين يسيطرون اليوم على المواقع العليا في المؤسسة العسكرية“.
وعليه يرى التواتي في حديثه لـ“العربي الجديد” أن حفتر يحاول عبر هذه اللقاءات “استعادة رصيده الاجتماعي لأسباب سياسية بوسائل جديدة، فهو يحاول تطويق مسار الحوار المهيكل الذي يرى فيه تهديداً مباشراً لنفوذه“، موضحاً أن مخاوف حفتر من الحوار الأممي “كبيرة لأنه يدرك أن فتح باب الترشح لهذا المسار سيكشف حجم سيطرته الفعلية على الأرض وولاء القبائل له، لذلك تحرك عاجلاً للقاء القادة المحليين وركز في كل خطاباته على رفض الحلول القادمة من الخارج“.
ويرى التواتي الى أن حفتر “تفطن مبكراً إلى أن البعثة (الأممية) بدأت بنقل المعركة إلى العمق من خلال محاولة سحب البساط الذي يقف عليه حفتر، وأيضاً مجلس النواب ومجلس الدولة، فجميعهم يدعي أنه يستمد شرعيته من الشعب، وكان الجميع، بما فيهم حفتر، يظنون أن الحوار المهيكل سيأتي في المرحلة الثالثة من خريطة الطريق، لكن البعثة فاجأته بإعلان بدء الترشح للعضوية، الأمر الذي أربكه ودفع الحكومة المكلفة من مجلس النواب إلى إصدار بيان حاد“.
جوهر القلق
وعقب إعلان البعثة عن فتح باب الترشح لعضوية الحوار المهيكل، الجمعة الماضية، أصدر رئيس الحكومة المكلفة من مجلس النواب في بنغازي، أسامة حماد، بياناً هاجم فيه البعثة واتهمها “بتجاوز المرحلتين الأولى والثانية من خريطة الطريق” ودخولها مباشرة في “المرحلة الثالثة المتعلقة بالحوار المهيكل“، منتقداً “قيام البعثة بمخاطبة الجامعات والبلديات مباشرة دون التنسيق مع وزارة الخارجية” بحكومته.
وقال حماد، أن ذلك “تعدياً على “السيادة الوطنية ومخالفة لأحكام الاتفاقيات الدولية بشأن العلاقات الدبلوماسية“.
وحذر الهيئات والمؤسسات المدنية والاجتماعية من التعامل مع البعثة دون الرجوع إلى حكومته، معتبراً أن “ملف المصالحة الوطنية شأن داخلي بحت لا يجوز أن يخضع لأي وصاية أو تدخل خارجي“.
ويرى التواتي أن “ردّة فعل حماد كان ترجمة مباشرة لارتباك حفتر بعد أن فقد القدرة على التحكم في إيقاع المبادرة الأممية“.
ويعتبر التواتي أن إشراك البعثة المجتمع الأهلي في صلب خريطتها “هو جوهر القلق الحقيقي لدى حفتر، فالبعثة تحاول تحويل القبائل من أداة تعبئة عسكرية إلى فاعل سياسي مستقل، وهو ما يعني فك الارتباط بينه وبينها، ولذا جاء رد حفتر بتحويل لغة الحرب إلى لغة الضمان والحماية، دون التفريط في مركزية قواته باعتباره الحكم النهائي في أي خلاف كما يحاول التسويق“.
جاء حديث التواتي لافتاً إلى أن حفتر “يريد القول للخارج أيضاً بأنه من يملك القرار على الأرض وأنه من يمكنه جمع القبائل وتوحيد الصفوف، فمضمون خطاباته محاولة لتكريس معادلة تقول إنّ الجيش هو من يملك مفاتيح الحل، وإن أي خريطة طريق أو انتخابات لن تنجح دون رضاه“.
___________