يتزايد الحديث في ليبيا اليوم عما بات يوصف بـ“مملكة آل حفتر“، للدلالة على شبكة النفوذ التي نسجها اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر وحوّلها من مشروع مليشيا صغيرة بدأت في بنغازي عام 2014، تحت شعار “عملية الكرامة“، إلى منظومة متكاملة تحتكر المال والسلاح والقرار السياسي، وتسعى إلى تثبيت حكم العائلة عبر التشريع والعلاقات الاقتصادية والتحالفات الخارجية.
وكرّس مجلس النواب الليبي أخيراً هذا المسار التصاعدي بترسيم أبناء حفتر في مواقع عسكرية قيادية، فثبّت قرار حفتر بتعيين نجله صدام نائباً له، وتعيين شقيقه خالد رئيساً للأركان، في خطوة أحكمت قبضة العائلة على مفاصل الحكم العسكري.
ولم يكن ذلك ممكناً من دون أذرع تشريعية وتنفيذية عمل حفتر لسنوات على إخضاعها له، برلمان يشرعن الخطوات ويسنّ له القوانين، وحكومة تمرر الميزانيات الضخمة.
صعود خليفة حفتر
بدأت قصة صعود خليفة حفتر من بنغازي، حين أطلق “عملية الكرامة” منتصف 2014 بدعوى محاربة “الإرهاب“، لكنه وجد نفسه غارقاً في حرب طويلة استنزفت قواته ووقته، فاتجه عام 2016 نحو الهلال النفطي، الشريط الساحلي الذي يضم موانئ تصدير النفط الرئيسية، لتصبح المنطقة تحت قبضته، ما أمّن له ورقة ضغط استراتيجية.
ولتعزيز قوة هذه الورقة بما يمنحه سيطرة على مصادر المال ويمكّنه من توظيفها سياسياً ودولياً، وسّع سيطرته باتجاه الجنوب عبر شبكة تحالفات قبلية مع قوى مؤثرة، مثل أولاد سليمان و التبو و المجابرة و الزوية و المغاربة، التي زادت من رصيد نفوذه، خصوصاً في المدن الكبرى مثل سبها والكفرة المشرفتين على أهم الحقول النفطية في الجنوب، بما فيها الشرارة والسرير والمسلة.
وبحلول عام 2018 أعلن حفتر بسط سيطرته الكاملة على بنغازي ودرنة، ليظهر قوة عسكرية حاكمة في الشرق والجنوب، وصار القرار النفطي في البلاد بيده، بعد أن أصبح ثلثي الإنتاج النفطي تحت نطاق سيطرته، إذ تضم المناطق التي يهيمن عليها اثنين من الأحواض الثلاثة الرئيسية للخام، هما حوض مرزق في الجنوب وحوض سرت في الوسط، بينما بقي حوض غدامس الأقل إنتاجاً خارج قبضته.
وبالتزامن شكّلت القبائل المتحالفة معه في الجنوب والشرق مصدر قوة إضافياً أظهره مسيطراً على ثلثي البلاد، ما أمّن له ثقلاً سياسياً وعسكرياً انعكس على مكانته أمام المجتمع الدولي ودفعه إلى إكمال مسيرة السيطرة على ما تبقّى من البلاد، فتوجّه غرباً نحو طرابلس عاصمة البلاد عام 2019، ليخوض فيها أكبر المعارك، لكنها انتهت بانكسار غير محسوب منتصف عام 2020 وكبّدته خسائر فادحة وأضعفت تحالفاته القبلية.
في أعقاب هذه الهزيمة اتجه حفتر إلى إعادة هيكلة مؤسسته العسكرية وبدأ بتحويلها إلى مؤسسة عائلية تقود القوة والقرار مباشرة، ففي 2021 شكّل لابنه صدام “الكتيبة 106“، ثم دمجها في “لواء طارق بن زياد” الذي امتد نفوذه من بنغازي إلى سرت، وفي مايو/أيار 2024 رقاه إلى رتبة فريق وعيّنه آمراً لرئاسة أركان القوات البرية.
وبالموازاة، دفع بنجله الآخر خالد إلى مشهد قواته، فعيّنه قائداً للواء 128 منذ أواخر 2021، قبل أن يحوّله إلى “لواء حمزة بن عبد المطلب“، ثم رقاه في يوليو/تموز 2023 إلى رتبة فريق وعيّنه آمراً لرئاسة أركان الوحدات الأمنية.
في غضون ذلك، دفع حفتر بابنه الثالث، بلقاسم، لكن في مجال المال والاستثمار، فأعاد صياغة “جهاز الاستثمار العسكري” القديم بواجهة جديدة تحت مسمى “صندوق إعادة إعمار ليبيا” وعيّن بلقاسم قائداً له، بشرعية قانون خاص أصدره مجلس النواب مطلع 2024 منحه من خلاله صلاحيات واسعة وحصانة كاملة ضد أي مراجعة مالية أو رقابية.
وحصل على موازنة أولية للعام 2024 تقدّر بـ55 مليار دينار (نحو 8.7 مليارات دولار)، ثم طلب في يوليو الماضي 69 مليار دينار إضافية (10.9 مليارات دولار)، وأعلن عن 172 مشروعاً منجزاً و200 قيد التنفيذ، لكن على الأرض ظهر من ذلك مشاريع محدودة مثل ملعب كرة قدم وفندق وجسرين في بنغازي.
هيمنة أبناء حفتر
ومع هيمنة الأبناء، بدأ كل منهم يتحرك داخلياً وخارجياً. صدام استُقبل رسمياً في عواصم إقليمية ودولية بينها واشنطن وأنقرة وروما وإسلام أباد والقاهرة، بينما صار خالد يستقبل المسؤولين الروس، وعلى رأسهم نائب وزير الدفاع يونس بك يفكيروف، في حين أصبح صندوق بلقاسم محطة لشركات دولية كبرى تتنافس على عقوده المليارية.
ورافق تصعيد حفتر أبناءه إعادة ترتيب تحالفاته القبلية، فبدأ بتفكيك النفوذ التقليدي للقبائل لضمان ولائها لأبنائه ووحداتهم العسكرية، فأقصى ضباطاً بارزين من ذوي النفوذ القبلي، مثل العقيد المهدي البرغثي من قبيلة البراغثة الذي اعتقل عام 2023 قبل إعلان وفاته، والعقيد حسن الزامة من أولاد سليمان الذي أُقيل مطلع 2024 وحُل اللواء 128 مشاة الذي كان يقوده، والفريق عبد الرزاق الناظوري من قبيلة العرفة في المرج، الذي أُبعد نهائياً من منصبه أخيراً لصالح خالد حفتر، لتصبح السلطة العسكرية والمالية أكثر تركيزاً في أيدي العائلة.
كما توسعت قاعدة نفوذ حفتر دولياً عبر شراكاته مع روسيا، التي دفعت بمئات من مقاتلي “فاغنر” إلى ليبيا منذ 2019، وحصلت على مواقع عسكرية واسعة من قاعدة طبرق شرقاً إلى قاعدة القرضابية في سرت مروراً بقاعدة الخادم في المرج، وصولاً إلى قواعد الجفرة وبراك الشاطئ والسرير في الجنوب.
ورغم الغضب الأوروبي والأميركي من تحالفاته مع موسكو، إلا أن العواصم الغربية غيّرت من مواقفها وبدأت منذ منتصف عام 2023 بالتواصل معه، فزاره العديد من السفراء والمسؤولين الأوروبيين والأميركيين، آخرهم مستشار الرئيس الأميركي مسعد بولس في يوليو الماضي.
ونجح حفتر في فرض نفسه أمراً واقعاً يجب التعامل معه، خصوصاً أنه اتجه إلى اللعب بأوراق استراتيجية هامة في المنطقة، مثل دفعه مجلس النواب للنظر في المصادقة على الاتفاق البحري التركي للحدود الاقتصادية، وملف الهجرة غير النظامية للضغط على أثينا وروما، ما جعل بنغازي مركزاً ينافس الحكومة المعترف بها دولياً في طرابلس.
في غضون ذلك، صار حفتر أقرب إلى “ملك غير متوّج” على شرق وجنوب ليبيا، يملك جيشاً عائلياً يدير المال وصفقات النفط ويشرعن كل ذلك عبر مجلس النواب، ويتحكّم في ممرات الطاقة والهجرة، لكن مع ذلك بقي خارج سيطرته ثقل سكاني هائل يتركز في الغرب، حيث يعيش أكثر من أربعة ملايين من أصل سبعة ملايين ليبي، إلى جانب المؤسسات السيادية التي لا تزال في طرابلس تحت إدارة الحكومة المعترف بها دولياً، وعلى رأسها المصرف المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط.
كما أن القوى المسلحة المنتشرة في غرب البلاد لا تزال تشكل توازناً لقوته، خصوصاً أن قوى وأجساماً سياسية تدعمها، مثل المجلس الأعلى للدولة والحكومة المعترف بها دولياً.
وعن ذلك، أعرب المستشار في المحكمة العسكرية الليبية، صالح اللافي، عن تحذيره من تداعيات تعيينات مجلس النواب الأخيرة لشرعنة قرارات حفتر بشأن نجليه صدام وخالد، وآثارها على مستقبل المؤسسة العسكرية في البلاد، إذ إلى جانب ما تعانيه من تشظٍّ وانقسام، فإن الهيكل العسكري الذي بناه حفتر أثقل المؤسسة العسكرية بالكثير من التعقيد القانوني والشرعي.
شرعنة المليشيات
وأوضح اللافي في حديث لـ“العربي الجديد” أن اتفاق جنيف لعام 2021 منح صفة القائد الأعلى للمجلس الرئاسي، وليس لمجلس النواب ليصدر بها قراراته الأخيرة، مضيفاً أن “ما فعله مجلس النواب هو أنه أعاد بلا أي سند صلاحياته السابقة، فعندما كان مجلساً منتخباً أصدر عام 2015 قانوناً أوجد به منصباً لا يعرف في الهيكل العسكري الليبي وهو منصب القائد العام وأسنده لحفتر، والآن مع صمت المجلس الرئاسي حيال تغول مجلس النواب على صلاحياته ستترسخ هذه القرارات أمراً واقعاً أنشأه حفتر لأسرته“.
واستدرك اللافي بالقول “في كل الأحوال فإن قرارات مجلس النواب سيترتب عليها واقع مرّ، فحتى وإن رأينا المجلس الرئاسي يصرح بموقف لاحق معارض لقبول صدام وخالد في الهيكل العسكري لأنها تعيينات لم تصدر عنه، فقرارات مجلس النواب هذه ستفتح الطريق إلى شرعنة المليشيات بشكل مقونن، كتقليد سائر في أعمال البرلمانات اللاحقة في البلاد، ما يجعل إعادة توحيد الجيش أو إخضاعه للقيادة المدنية مستقبلاً أمراً أكثر صعوبة، والأخطر أن مجلس النواب يشرعن مشروعاً عسكرياً وراثياً على صورة العائلة“.
على الصعيد السياسي، رأى أستاذ العلاقات الدولية مصطفى الكوت، أن حفتر وعائلته أصبحوا في نظر المجتمع الدولي “شركاء أمر واقع“، ما يفسر الانفتاح عليهم من موسكو وواشنطن، ويعكس تحولهم إلى واجهة سياسية تنازع السلطة المعترف بها في طرابلس.
وأضاف الكوت في حديث لـ“العربي الجديد“: “كيف يمكن بناء شراكة سياسية مع طرف يعتمد على التوريث العسكري والاقتصادي؟ الشراكة السياسية تقوم على توزيع السلطة بين قوى متعددة، لكن حفتر يحتكر القرار عبر أبنائه ويقصي أي قوة قبلية أو سياسية يمكن أن توازن السلطة، مما يقوّض أي تسوية سياسية“.
وأشار الكوت إلى أن سيطرة العائلة على النفط والموانئ، واتساع رقعة نفوذها الجغرافي، منحاها قدرة على طرح مشاريع ضخمة تغري الشركات الدولية، ما يعزز نفوذها المحلي والدولي.
وخلص إلى أن أي محاولات لتسوية سياسية ستصطدم بمصالح حفتر الشخصية ومصالح الشركات والدول المرتبطة به، مما يحوّل مشروع حفتر من حالة عسكرية إلى واقع سياسي معقّد يصعب تجاوزه، فقد تغري السلطة حفتر وأبناءه إلى اتجاه نقل البلاد إلى منعطف خطير يتمثّل في تقسيمها.
_______________