سعد العشة

5

بات متوسط المعاشاتحينها (من الثمانينيّات وحتى أواخر التسعينيّات)، لا يتعدّى 150-200 دينار.

في خضم العزلة الدولية والحصار، غدا السائح الليبي باحثاً عن بقعة في الكوكب لا تسمه بالإرهاب. ولم يعِ العديد من السيّاح كما أتوقّعمآلات الجيوبوليتيكس آنذاك، أي لم يفتشوا قصداً عن دولٍ اشتراكية قريبة تحتضن رؤيا قائدهم، الصقر الوحيد“.

هذا التوقع نابع ممّا علموه يقيناً من خلال استفساراتهم في مكاتب السياحة، ذاك أنّ أوروبا الشرقية” (الشرق الأوسط الأوروبي إذا ما انتهجنا نمطية الاصطلاح)، أمست قبل تفتّت جدار برلين وجهةً سياحيةً رخيصةً للذكر الليبي الذي غالباً ما سافر لحاجة في نفس رغبته الجنسية وليس لزيارة المدينة القديمة في وارسو. أقول غالباً لأنّ السائح في كينونته لغز؛ لا نعرف إطلاقاً ما يحثّه على السفر.

لا ننسى سلك التجارة.

صارت تركيا في الثمانينيّات وجهةً لشراء البضائع (كذلك موجة السفر إلى المغرب بالتزامن مع معاهدة وجدة 1984، التي انتهت، ولم لا، في 1986، ضمن سلسلة الاتفاقات والمعاهدات المذكورة). ولم تأتِ طفرة استيراد البضائع من فراغ، فهي نتيجة طبيعية لأزمة السلعة الناجمة عن العقوبات وانخفاض أسعار النفط آنذاك.

6

عاد شبح حظر الطيران في 2004 إلى أدراجه، أي إلى دول أخرى، وأصبحت أمام الليبيّين خيارات أوسع في التنقّل في أرض الله الواسعة.

وإثر الانتفاضة في 2011، ساهم التقرّب من أغلب الدول العربية والعالم في سلاسة التنقّل (أعرف شخصيّاً شابّاً سافر إلى مصر ببطاقته الشخصية في 2011، مرتَين). بيد أنّ الأحوال انقلبت بعد حرب 2014 المدمّرة التي قسمت البلد وأغلقته وظلت غالبية تبعاتها حاضرةً حتى اليوم (من انقسام الجيش والمصرف إلى العقوبات الدولية المالية وما لازمها).

نختلف، أنا وبو لْطَيْعهْ، في اصطلاح شعب، إذ أعتقدُ أنّ الليبيّين لم يصيروا شعباً بعد، ويعتقد هو بأننا شعب أصيل“. لكن الاختلاف مردّه إلى ارتباك في التعريف، فالشعب بالنسبة لي تكتّل بشري يؤمن بالمواطنة وحقوق الآخر في المعارضة والاختلاف، بينما يحيلني هو إلى تجانس الشعب شرقاً وغرباً وجنوباً، قبليّاً وعرقيّاً، وهو ما لا ينكره أحد، فضلاً عن الهوية الجامعة التي شكّلتها الدولة السنوسية في تشكيل دولة حديثة قامت على طرد الاحتلال الإيطالي الفاشي.

بعد 2011، بدأ الليبيّون في الشرق بالتعرّف على مدن الغرب والجنوب وأحوالها، والعكس صحيح.

أشياء كثيرة كانت تحدث خلف الستار حين انكفأ المواطنمن أواخر السبعينيّات وحتى العصر الذهبيللانتفاضة على تحصيل قوته (عصر ذهبيفي 2012-2013، لانفتاح البلد على الشعب والشعب على البلد). كل من يترحم على النظام السابق لا يتذكر سوى الطعام والشراب.

بدأت برامج العلاج المدفوعة من الدولة إبّان حرب 2011، عندما عولِجَ المصابون في مصر وتونس والأردن وتركيا، وفي بعض الحالات، بريطانيا وشقيقاتها.

صارت عبارة على حساب الدولةمتداولةً إلى يومنا. هل تختلط السياحة بالعلاج؟ هذا هو المرجّح.

في سياق الحركة الأساسي، يروّج البعض لـهيبةجواز السفر الجماهيري. ولا ندري إلى هذا اليوم من أين جاءت الهيبة في مسلسل العقوبات التي وضعتنا لعقود في قوائم الإرهاب ومحور الشرّوغيرها من عداءٍ لا يبعد سوى كيلومترات من الحدود، شرقاً وغرباً وجنوباً.

أما عن أغلب الطرق التي تصلنا، فقد دشّنها المحتل الفاشستي لمصلحة دولته. وهذا المحتل الفاشستي يوصف بـهمج أوروبافي ليبيا عندما يشخّص المشخّصون فشل إيطاليا في إرساء حضارةفي البلد، على غرار فرنسا وبريطانيا في باقي دول الوطن العربي الحبيب. ومع هذا، يذكّرنا المذكّرون في هذا التشخيص بأنّ إيتالو بالبو قد أمسى مهندس ليبيا الحديثة وصانع أمجادها.

حين انتهي حديثنا، طلب منّي بو لْطَيْعهْ التحقيق في ظاهرة غريبة؛ أخبرني أنّ 8،000 سيارة تاكسي في بنغازي، حسب إحصائية 2010، اختفت تماماً مع بدايات الانتفاضة في 2011.

يعترف كلانا بأنّ السبب قد يُرَدّ إلى هوية مجنَّديالاستخبارات الذين امتهنوا قيادة التاكسي في الدولة البوليسية، وأنّ التخلص من هذه السيارات أمر سهل لأنها مرتبطة بمنظومة بيانات، فتُطلى جميعها وتُباع كسيارات خاصة.

أُردِفُ هذا التساؤل بآخر: لماذا لم تختفِ تاكسيّات طرابلس؟ ربما لأنّ الحرب طالت فيها، بعكس بنغازي التي تخلصت من النظام الجماهيري بلا حرب ضروس.

هذه أسئلة ليبية جدّاً ولكنها تحيلنا إلى أحوال النقل العام في الداخل. بين الحركة في الخارج (التي لخبطتها حماقات النظام الجماهيري)، والحركة في الداخل (التي لخبطتها حماقات الحروب الأهلية)، يصرّ الليبي، بدوافع إنسانية مشتركة مع كل البشر، على التنقّل والسفر. وفي راهنٍ يكتسح فيه الإنترنت العلاقات البشرية، صار حتميّاً أن يصير الليبيون خوتبقطارات أو من دونها.

______________

مقالات مشابهة