إدريس إحميد

أربعة عشر عامًا مرّت على التغيير الذي شهده الليبيون في عام 2011، حين انتهى نظام وجاء نظام، وبدأت مرحلة جديدة حملت معها آمالًا كبيرة بدولة ديمقراطية حديثة.

لكن ما أعقب ذلك من فوضى وصراعات وانقسامات، حوّل تلك الآمال إلى خيبات متتالية، وأعاد البلاد إلى دوامة من الانهيار المؤسسي والأمني والسياسي.

منذ لحظة إعلان “تحرير” البلاد، رفض الثوار تسليم أسلحتهم، فباتت التشكيلات المسلحة واقعًا مفروضًا، لها كلمتها في صنع القرار، وتحولت الحكومات إلى أدوات تتعامل معها تحت الأمر الواقع. سرعان ما فشلت أولى محاولات الانتقال السلمي، وبدل أن يكون المؤتمر الوطني العام بداية تأسيس، أصبح ساحة للانقسام والتنازع على السلطة، تبعه مجلس النواب الذي وُوجه بالعرقلة والانقسام، وصولًا إلى مشهد متشظٍّ ومضطرب لا يزال قائماً حتى اليوم.

الاتفاقات السياسية، من الصخيرات 2015 إلى جنيف 2021، لم تحقق اختراقًا حقيقيًا في مسار الاستقرار. فحكومة الوحدة الوطنية التي نشأت عن اتفاق جنيف نالت الثقة من البرلمان ثم تخلّت عن التوافق معه، رافضة المغادرة دون انتخابات ودستور. الانتخابات التي خُطط لها في 24 ديسمبر 2021، والتي شارك في تسجيلها أكثر من 2.8 مليون ناخب، تم القفز عليها في لحظة مفصلية، ما عمّق شعور الليبيين بالإحباط والخذلان.

في موازاة ذلك، بقيت الأحزاب السياسية في الهامش، بلا دعم محلي أو دولي، وغير قادرة على فرض نفسها كبديل للتشكيلات المسلحة أو القوى المتصارعة.

أما الحوار حول القاعدة الدستورية فقد ظل رهين التجاذبات، حتى الاتفاق الذي جرى في المغرب 2023 بين البرلمان والمجلس الأعلى للدولة لم يُعترف به أمميًا، في ظل تباين في مواقف البعثة الدولية والمبعوث السابق عبدالله باتيلي.

الانقسام يضرب مفاصل الدولة: مجلس الدولة منقسم، المجلس الرئاسي غارق في الصمت والعجز، المؤسسة العسكرية غير موحدة، رغم انتشار القوات المسلحة في مناطق واسعة وخاصة في الجنوب حيث الثروات والحدود الحيوية. أما حكومة الوحدة الوطنية فتتمسك بالسلطة، وتربط مغادرتها بإجراء الانتخابات، في ظل غياب قاعدة دستورية متوافق عليها.

رغم التحركات الدولية التي تظهر بين الحين والآخر وتتحدث عن “فرض حل توافقي” أو “تشكيل حكومة موحدة”، إلا أن الواقع يؤكد أن التدخل الخارجي لا يرى في سلبية النخب الليبية والمجتمع السياسي إلا عائقًا إضافيًا، يجعله أكثر حذرًا في تقديم أي حل شامل.

فالمجتمع الدولي، بعد سنوات من التجربة، يدرك أن الليبيين أنفسهم لم يتفقوا على أولويات الحل، بل إنهم غالبًا ما يفرغون أي مبادرة من مضمونها، ولهذا فإن الحلول القادمة من الخارج لن تكون كاملة ولا مُرضية للجميع، بل مجرد إدارة مؤقتة لأزمة مستمرة.

كثيرون يطرحون هذه المقترحات، من سياسيين وخبراء ومراقبين، لكن ماذا عن الشارع الليبي؟.

الحقيقة أن جزءًا كبيرًا من الليبيين لم يعد يثق في جدوى الانتخابات، بعدما اختُطفت أكثر من مرة، وفُرغت من مضمونها، وأُجهضت نتائجها قبل أن تُعلن. في المقابل، ترتفع أصوات تنادي بضرورة وجود سلطة قوية تنقذ البلاد من الفوضى، ولو لفترة مؤقتة، حتى لو كان ذلك عبر تسليم السلطة للمؤسسة العسكرية لتفرض الأمن وتعيد هيبة الدولة، ثم تُسلّم البلاد لمسار مدني انتخابي سليم.

هذا الطرح يلقى قبولًا في ظل الانهيار الأمني والفساد، وإن كان يثير مخاوف من العودة إلى حكم العسكر أو عسكرة الدولة، لكنه يعكس في جوهره عطش الليبيين للاستقرار، أيًّا كان الطريق المؤدي إليه.

ويبدو واضحًا أن الليبيين، وخاصة الأطراف السياسية التي عطّلت المسار مرارًا، لا تضع المصلحة العليا للبلاد في اعتبارها، ولا تُدرك حجم المتغيرات الإقليمية والدولية المتسارعة، والتي تُنذر بانعكاسات مباشرة على ليبيا. فالدولة الهشة، التي تعاني من انقسام وتفكك داخلي، قد تصبح لقمة سائغة أمام التدخلات والأطماع الأجنبية، في غياب توافق وطني حقيقي.

إنها أزمة يتحمّل الليبيون مسؤوليتها أولًا وأخيرًا، وعلى من يرفع شعار السيادة أن يبدأ بإعادة ترتيب البيت الليبي، قبل أن يُفرض عليه واقع لا خيار فيه.

اليوم، لا يحتاج الليبيون إلى مؤتمرات جديدة، بل إلى حلول فعلية تحمي ما تبقى من الدولة، وتمنحهم أملًا في مستقبل مستقر.

التغيير الذي بدأ في 2011 لم يكتمل، لكنه أيضًا لم يُلغَ. وهو بحاجة إلى تصحيح المسار، لا إلى إعادة تدوير الأزمة.

فهل نملك اليوم شجاعة الإجابة على السؤال الكبير: ما هو الحل الواقعي؟.

___________

مقالات مشابهة