الحبيب الأسود

لو جمعنا حفتر والدبيبة معا وسألناهما عن رأي كل منهما في المصالحة سيكون الجواب: نعم لمصالحة وطنية شاملة شريطة ألا تضر بمصالح الفريقين، ولا تفقدهما امتيازات السلطة.

في السابع من يناير 2024 أعلن مجلس النواب الليبي إقرار مشروع قانون المصالحة الوطنية بغالبية الأصوات. بعد يومين، انتقد المجلس الرئاسي تلك الخطوة، وقال إنه كان يأمل التعامل مع المشروع “بروح المسؤولية الوطنية بعيدا عن التسييس،” إلا أن الجلسة “خالفت هذه التطلعات وزادت من تعقيد المسار” بحسب البيان.

الرئاسي رأى ضرورة الالتزام بالاتفاق السياسي كأساس شرعي لتنظيم عمل المؤسسات السياسية وتنسيق اختصاصاتها لتجنب النزاعات وفرض الأمر الواقع، مؤكدا أنه تعامل في ملف المصالحة بشفافية ومهنية ليبية خالصة، وأن المشروع “حظي بإشادة دولية قبل إحالته إلى مجلس النواب منذ أكثر من عام، بعد إعداده وفق معايير مهنية ومرجعيات وطنية لضمان حقوق جميع الأطراف وتعزيز فرص المصالحة.”

إلى هنا، يمكن تفسير الموقف بحالة الاستقطاب، وما تعرفه البلاد من تجاذبات سياسية واجتماعية واقتصادية، ومن تدخلات خارجية تخدم مصالح أصحابها وتضرب مصالح الشعب الليبي المبتلى بنخبة سياسية مستعدة للمتاجرة بسيادة بلادها في المزاد الدولي مقابل الحصول على صك التبعية المذلة طالما أنه يضمن لها استمرارية التمكن من امتيازات الحكم وأبرزها حياة البذخ وأسبقية الفساد والإفلات من العقاب.

منذ أبريل 2021 والمجلس الرئاسي يعمل على مشروع للمصالحة الوطنية ولكن من دون جدوى. عقد مؤتمرات تحضيرية للمؤتمر العام الجامع في طرابلس وبنغازي وزوارة وسبها لإعداد اللائحة الختامية، لكنه فوجئ بأن ممثلي سيف القذافي وقيادة الجيش خيروا الانسحاب بسبب غياب الإرادة الحقيقية لطي صفحة الماضي.

كان هناك شبه إجماع على أن فاقد الشيء لا يعطيه، فالمجلس الذي كان من المفترض أن يكون خيمة الليبيين تحوّل إلى طرف أصيل في الصراع السياسي، ولاسيما رئيسه الذي لم يستطع تجاوز شعوره بأن وصوله إلى ذلك المنصب ما كان ليكون لولا وجود اسمه ضمن قائمة يرأسها رجل الأعمال عبدالحميد الدبيبة خلال مؤتمر الحوار السياسي في فبراير 2021.

كما أن بقاءه في ذلك الكرسي وبتلك الامتيازات مرتبط ببقاء الحكومة باعتبار السلطات التنفيذية الحالية في طرابلس جاءت في سلة واحدة ولن يكون خروجها إلا في سلة واحدة.

في نوفمبر الماضي، دعا رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي رئيس مجلس النواب عقيلة صالح إلى إقرار مشروع قانون المصالحة الذي أعده “دون إجراء أيّ تعديلات، وأن يكون ذلك في جلسة شفافة صحيحة الانعقاد.” نسي المنفي أو تناسى أن حبل الود بينه وبين عقيلة صالح مقطوع، وأنهما لا يلتقيان على مصلحة للدولة والمجتمع، وأن ملف المصالحة فقد صلاحيته منذ أن دخل سوق المزايدات السياسية وبات جزءا من لعبة الكرسي التي لا تنتهي.

ربما يُحسب لمجلس النواب أنه ألغى في فبراير 2015 قانون العزل السياسي الصادر عن المؤتمر العام في 5 يونيو 2013 والذي أثار جدلا واسعا في البلاد باعتباره كان يمثل عقابا جماعيا لموظفي الدولة وخاصة من التكنوقراط ممن عملوا في ظل نظام حكم البلاد لأكثر من 40 عاما.

وربما يُحسب لمؤسسات الحكم في شرق البلاد، أنها نجحت بعد 2014 في تحقيق خطوات مهمة على طريق المصالحة الاجتماعية، وسمحت للمهجرين بالعودة إلى ديارهم، وأعادت الموظفين إلى وظائفهم المدنية والعسكرية.

ولكن كل ذلك يبقى في خدمة مشروع سياسي بعينه. بإمكان أنصار النظام السابق العودة إلى ديارهم ولكن ليس بإمكانهم التصريح بميولاتهم السياسية التي قد تصطدم بالواقع الجديد الذي يؤسس لدكتاتورية قد تكون أسوأ من الدكتاتورية السابقة.

في فبراير 2023، دعت قمة برازافيل للجنة الاتحاد الأفريقي رفيعة المستوى حول ليبيا جميع أصحاب المصلحة الليبيين إلى تبني جهود المصالحة بشكل كامل، وبطريقة شاملة وبنّاءة، وطالبت جميع الأطراف الخارجية بالتوقف والامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية لليبيا، لأن ذلك يقوض المصالح الأساسية للشعب الليبي وتطلعاته المشروعة، مؤكدة الحاجة الملحة لسحب كل المقاتلين الأجانب والقوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا، وفقا لقرارات الاتحاد الأفريقي والقرارات الدولية ذات الصلة.

قبل عام من الآن، تم الإعلان رسميا أن المؤتمر العام للمصالحة سينعقد في أواخر أبريل بمدينة سرت بدعم من الاتحاد الأفريقي وبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، لكن جاء الموعد ولم ينعقد المؤتمر. النوايا الصادقة كانت منعدمة لدى صانعي القرار في طرابلس، المجلس الرئاسي فاقد للمصداقية، وسلطته لا تكاد تكون مرئية في المشهد الليبي، وهو غير معترف به في شرق البلاد. أما في غربها فهو رهينة خيارات وسياسات حكومة الظل التي تتحكم في مفاصل السلطة ويبدو في واجهتها عبدالحميد الدبيبة.

بعد مرور أبريل دون لقاء الفرقاء في سرت، خرج الاتحاد الأفريقي من خلال اللجنة رفيعة المستوى المكلفة بالملف الليبي للإعلان عن مؤتمر عام للمصالحة الليبية في أديس أبابا في أكتوبر 2024 باتفاق مع المجلس الرئاسي، وكان من المنتظر أن ينعقد بحضور ممثلي الدول الأعضاء في اللجنة ومنها دول جوار ليبيا، لكن مرة أخرى فشلت المحاولة.

في أكتوبر وصل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني إلى طرابلس بصفته رئيسا للاتحاد الأفريقي في محاولة لإقناع الجماعة هناك بضرورة السير على طريق المصالحة، لكنه عاد إلى نواكشوط أكثر يأسا.

ربما أدرك ولد الغزواني أن أفارقة جنوب الصحراء أكثر قابلية لمبدأ التسامح والمصالحة من عرب الشمال الخاضعين لسلطان الشهوة: شهوة السلطة والمال. والسلطة أمّ الملذات والشهوات، وقد عبّر الثعالبي صاحب “يتيمة الدهر” عن ذلك بالقول إن “السلطان حلو الرضاع مرّ الفطام.” ومن وضع يده على السلطة وضع يده على مفاتيح الخزينة وصنابير الثروة.

في نوفمبر أدى رئيس الكونغو برازافيل رئيس اللجنة الأفريقية رفيعة المستوى بشأن ليبيا دينيس ساسو نغيسو زيارة إلى طرابلس وبنغازي، حيث أعلن أن الفرقاء الليبيين مدعوون إلى التوقيع على ميثاق للمصالحة الوطنية خلال قمة تنعقد في فبراير القادم بأديس أبابا.

بالمناسبة، أعلن الجنرال خليفة حفتر عن مبادرة جديدة قال إنها تهدف إلى تحقيق مصالحة شاملة بين جميع الأطراف الليبية، بما يسهم في استعادة وحدة البلاد واستقرارها. لكن لا أحد التفت إليها. البلاد لا تنقصها مبادرات المصالحة وإنما النوايا الصادقة لتفعيلها على أرض الواقع.

أغلب الظن أن مؤتمر أديس أبابا لن ينعقد في موعده، وأن لا المجلس الرئاسي سيعترف بقانون مجلس النواب، ولا مجلس النواب سيعترف بقانون المجلس الرئاسي. الشارع الليبي متصالح في أغلب الأحيان والحالات، والفاعليات الاجتماعية تأثيرها أكبر بكثير من تأثير الفاعليات السياسية. بالنسبة إلى شرق ليبيا من دخل خيمة حفتر فهو آمن، وبالنسبة إلى المنطقة الغربية فإن الوضع يختلف باختلاف التوازنات.

يقول البعض: لو جمعنا حفتر والدبيبة معا، وسألناهما عن رأي كل منهما في المصالحة، سيكون الجواب: نعم لمصالحة وطنية شاملة شريطة ألا تضر بمصالح الفريقين، ولا تفقدهما امتيازات السلطة، ولا تفسح المجال أمام سيف القذافي لينافس في أيّ استحقاق انتخابي قادم.

ويقول آخرون: المسألة أعقد من ذلك، هناك صراع على الحكم، وهناك أيديولوجيات متنافرة، وهناك تدخلات إقليمية ودولية لتعطيل المصالحة من أجل تأجيل التوصل إلى صورة الوضع النهائي الذي يريد كل طرف أن يكون لفائدته، ولا يمكن بالتأكيد أن يكون لفائدة كل الأطراف.

__________________

مقالات مشابهة