أحمد مصطفى
تطوي ليبيا عام 2024 بكل ما حمله من مراوحة للصراع بين الفرقاء، بل وتفاقم انعكاساته على الصعيدين الأمني والاقتصادي، وتترقب بحذر ما سيحمله العام الجديد من مقاربات إقليمية ودولية تتأرجح تقديرات انعكاساتها على المشهد الليبي بين التفاؤل بحل أزمة طال أمدها لأكثر من عقد، والتشاؤم الذي يصل إلى حد الاعتقاد باحتمال العودة إلى التصعيد العسكري.
وجاءت استقالة الموفد الأممي إلى ليبيا عبد الله باثيلي في نيسان (أبريل) الماضي، بعد فشله في مهمة استمرت نحو عام فقط، لتظهر الانقسام الدولي وعدم قدرة مجلس الأمن على تعيين خليفة له، لتتولى المهمة موقتاً نائبته الديبلوماسية الأميركية ستيفاني خوري.
ويُرجح أن تعيش ليبيا شتاءً ساخناً، إذ ستكون القوى الدولية الكبرى، لا سيما روسيا والولايات المتحدة ومقارباتها بشأن ليبيا، أمام اختبار بعد إلزام مجلس الأمن تعيين موفد أممي جديد في كانون الثاني (يناير) المقبل، مواكبةً مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في 20 منه.
وليست ليبيا معزولة عن متغيرات دولية وإقليمية محورها صراع بين محورين: الأول يضم روسيا والصين ومعهما إيران ويسعى إلى عالم متغير ومتعدد الأقطاب.
الثاني، تقوده الولايات المتحدة ومعها حلفاؤها ويسعى إلى الحفاظ على مكتسبات ما بعد الحرب العالمية الثانية وعلى إبقاء أميركا القطب الأوحد في العالم.
وهذا الصراع ينعكس داخل أروقة مجلس الأمن وقراراته، وفق المحلل السياسي الليبي محمد بويصير الذي يستبعد حصول مقاربات بين واشنطن وموسكو “رغم إعلان ترامب أنه سيحل المعضلة الأوكرانية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لكن هذا الحل سيعني تقديم تنازلات إلى موسكو من شأنها تغيير النظام العالمي إلى متعدد الأقطاب“.
وأضاف مؤكداً أن الولايات المتحدة “تعتمد على نظام مؤسسي مهني ولا تبني استراتيجيتها على توجهات الرئيس منفرداً“.
ويعرب بويصير عن تشاؤمه حيال الوضع في ليبيا، ويلفت في حديث إلى “النهار” إلى صعوبة تعيين موفد أممي جديد في ظل الصراع الدولي داخل مجلس الأمن، و“إذا حدث فسيكون شخصية بلا دور فاعل“.
ويرجح أن لا يشهد عام 2025 حلاً سياسياً للمعضلة الليبية، بل على العكس “سيشهد انتقال الصراع الدولي إلى الأراضي الليبية، فالقضية أكثر تعقيداً من إزاحة المُسيطرين على السلطة من مناصبهم، في مجتمع يسيطر عليه تقاسم المناصب الحكومية والثروة وهو أعجز من التأثير في الأحداث التي تدور حوله“.
وتدخل الأزمة الليبية عامها الخامس عشر، وقد تحولت إلى “معضلة مزمنة“، وفق تعبير المحلل السياسي الدكتور عبد العزيز إغنية الذي يُشير إلى محاولات الأطراف السياسية التعايش بعضها مع بعض في تقاسم مناطق نفوذها سياسياً واقتصادياً، معتبراً أنه “رغم تفاقم الصراع علناً، تسعى الأطراف المتصارعة إلى استمالة بعضها بعضاً، وهناك اتصالات دؤوبة ولقاءات خارج الأضواء في ما بينها“.
واضاف مؤكداً لـ“النهار” أن إجراء الاستحقاقات الانتخابية “سيظل قيد مناورات الأطراف المحلية التي لا تريد أن تترك مكاسبها السياسية والمالية“. ويستبعد إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية خلال العام الجديد مع تشبث المتحكمين بالسلطة بمقاعدهم.
ويؤكد إغنية أن الأزمة الليبية “جزء من صراعات إقليمية، سواء في ساحل المتوسط أم في دول الساحل الأفريقي والصحراء، مع انتشار للتنظيمات المتطرفة وانتظارها الفرصة للعودة مجدداً إلى المشهد، وتعتبر ليبيا نقطة ارتكاز لكل هذه التقاطعات ومنطقة رخوة لهذه الصراعات“.
ويقول إنه رغم ترقب الإدارة الأميركية الجديدة، يجب الأخذ في الاعتبار أن مواقف ترامب “حادة وصادمة وتنظر بالأساس إلى مصالح بلده، وكذلك من المعروف عنه أنه لا يميل إلى التعامل مع التنظيمات الراديكالية، وبالتالي لا أعتقد أنه سيغض الطرف عن التطورات في وسط أفريقيا“.
كما يستبعد إغنية ظهور مقاربات أميركية – روسية سريعة بسبب الخلاف الحاد بين البلدين.
خلافاً لذلك يعوّل الباحث في الشؤون السياسية والاستراتيجية محمد امطيريد على مقاربات متوقعة بين ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين لاستعادة الاستقرار في ليبيا، على غرار المقاربات التي جرت العام الماضي بين تركيا ودول إقليمية وانعكست حلحلة لبعض الإشكاليات في ليبيا، متوقعاً أيضاً أن يفرض ترامب مبادرات تثبت الاستقرار في ليبيا على الفرقاء المحليين بعدما تدخلت واشنطن مباشرةً في الملف الليبي لمواجهة النفوذ الروسي.
أما الأكاديمي المتخصص في العلوم السياسية والمنظمات الدولية الدكتور عبد المنعم الحر فيلفت إلى أنه “في ظل المرحلة التي يعيشها العالم حالياً والتي يجري فيها فك التحالفات وبناؤها، فإن أولوية الملف الليبي تراجعت نتيجة الأحداث الساخنة دولياً وإقليمياً“.
ويتفق مع بويصير في استبعاد حصول توافق داخل مجلس الأمن على تعيين موفد أممي جديد، و“إن جاء فإن نجاحه في مهمته سيكون رهن الأطراف السياسية والعسكرية الموجودة على الأرض“.
وأضاف لافتاً عبر “النهار” إلى أن الوضع السياسي في ليبيا “معقد وغير مستقر ولا سلطة واحدة تُسيطر على صنع القرار السياسي، فهناك حكومتان في الشرق والغرب وقوى مسلحة تمارس النفوذ، ويجب ألا نغفل الدور القبلي في بعض المناطق“.
واستطرد مؤكداً أيضاً أن “التحرك الملحوظ للمجتمع الدولي في الأيام الأخيرة لتوحيد السلطة التنفيذية وتعيين حكومة جديدة سيقابله رفض رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة تسليم السلطة في العاصمة طرابلس“.
وعلى الصعيد الأمني شهدت مدن الغرب الليبي طيلة العام اشتباكات متقطعة بين الميليشيات المتصارعة على النفوذ (!!).
وكاد انسداد الأفق السياسي يُفجر اتفاق وقف إطلاق النار الموقع عام 2020 بين قوات “الجيش الوطني” المسيطر على شرق ليبيا وجنوبها والقوات المتمركزة في الغرب الليبي، إذ شهدت خطوط التماس، لا سيما في مناطق جنوب غربي ليبيا، تحشيدات متبادلة، الأمر الذي استدعى إعادة الزخم إلى دور اللجنة العسكرية المشتركة المعروفة باسم “لجنة 5+5″، فرعت البعثة الأممية سلسلة اجتماعات لتثبيت وقف النار.
وتواكب ذلك مع ما تبدو ترتيبات دولية لتوحيد المجموعات المسلحة في الغرب الليبي، وتدريب بعض عناصرها في خطوة استفاد منها ما يُسمى “اللواء 444” وقائده محمود حمزة في توسيع نفوذه بدعم أميركي – أوروبي واضح. وبالتزامن مع ذلك تكثفت المحادثات لتشكيل قوة عسكرية مشتركة بين الغرب والشرق توكل لها مهمة تأمين الحدود الجنوبية.
لكن بويصير يرجح حصول مواجهة بين وكلاء واشنطن وموسكو على الأراضي الليبية خلال العام المقبل، موضحاً أن “ليبيا في المنظور الأميركي ساحة صغيرة وأهميتها تأتي من تمدد النفوذ الروسي فيها، ولا أعتقد أن ترامب سيضع ملفها في صدارة أولوياته، لكنه سيأتي ضمن آلية تعامله مع النفوذ الروسي والذي سيكون ملف ليبيا جزءاً منه عبر التفاوض وقد يصل إلى المواجهة“.
ويذكّر بويصير بأن “واشنطن أبلغت قبل شهور قليلة قائد الجيش الوطني خليفة حفتر بأن لديها معالجات أخرى حين رفض طلبها إخراج القوات الروسية. ويبدو أن الولايات المتحدة تتحضر لتلك المواجهة عبر تدريب عناصر المجموعات العسكرية في الغرب وعلى رأسها قوات “اللواء 444″.
وأتصور أن انفجار الأوضاع في المنطقة سيصل إلى ليبيا ولن يكون هناك حل سياسي قريب“.
أما عبد المنعم الحر فيشدد على أن “المعضلة الرئيسية في ليبيا أمنية بالدرجة الأولى ويستحيل حلها بالوسائل السلمية، رغم أن المجتمع الدولي يسوق المشكلة على أنها سياسية، والدليل على ذلك عدم قدرة أي حكومة تولت المسؤولية منذ عام 2011 على تعيين وزير للدفاع.
والسؤال هنا من هو القائد العام للجيش الليبي؟
أهو حفتر في المنطقة الشرقية أم من يمثل القوى المسلحة في الغرب؟
وكذلك من هو الجيش أصلاً؟
هل هو المتمركز في الشرق أم في الغرب؟
يبدو أن لملمة شتات المؤسسة العسكرية غير وارد في القريب العاجل .
وبالمثل يُرجح إغنية “ألا تغييب التوترات الدولية عن ليبيا التي تمثل جزءاً من دوائر الصراع. فروسيا ستظل تبحث عن تثبيت نفوذها في دول الساحل والصحراء، الأمر الذي ترفضه القوى الغربية. لذلك فالعلاقات مفتوحة على مصراعيها بين الجانبين الأميركي والروسي والأطراف المحلية التي تحاول الاستفادة من هذا الصراع قدر الإمكان“.
واستطرد لافتاً إلى أن ليبيا “عموماً تظل بلداً محتلاً في ظل وجود القوات الأجنبية، سواء أكانت تركية أم إيطالية أم أميركية، والتي تبحث عن مصالحه في المنطقة والحفاظ عليها“.
أما أمطيريد فيؤكد انفتاح حفتر على التعاون مع واشنطن “لكن ذلك لن يأتي على حساب تحالفه مع روسيا والذي لم يأت وليد اللحظة، فالجيش الليبي يعتمد على التسليح الروسي منذ سبعينات القرن الماضي، وبالتالي لن يستطيع الاستغناء عنه“.
وأضاف مشيراً إلى أن قائد “الجيش الوطني يرفض الدخول على خط صراع المحاور الدولي ويؤمن بشراكة براغماتية مع كل الدول من دون تدخل في سلطة القرار الليبي“.
ويؤكد أمطيريد، في المقابل، أن واشنطن ستحافظ على تحالفها مع القوى المسلحة المتمركزة في الغرب، وستواصل عملها من خلال التدريب على دمجها تحت قيادة عسكرية موحدة، ولا يستبعد استخدام واشنطن هؤلاء في مواجهة تمدد النفوذ الروسي، لافتاً إلى أن تركيا أيضاً زادت من قواتها المتمركزة في غرب ليبيا إلى 3 آلاف عنصر في تحد واضح لمهمة لجنة “5+5” إجلاء القوات الأجنبية والمرتزقة من الأراضي الليبية.
وإذا كانت ليبيا قد نجحت أواخر العام المنصرم في تمرير المرحلة الأولى من أول انتخابات بلدية تُجرى في البلاد منذ نحو عقد، ما أظهر قدرتها على تمرير الاستحقاقات السياسية المطلوبة محلياً ودولياً والمعطلة بفعل الصراع السياسي، فإن الاختبار الأكبر سيكون في المرحلة الثانية التي ستنطلق مطلع العام الجديد، إذ إن الاقتراع سيُجرى في محافظات مركزية على رأسها العاصمة طرابلس (غرب ليبيا) وبنغازي (عاصمة الشرق الليبي)، بالإضافة إلى مدينة سبها الأكبر جنوباً.
وفيما أعاد الاقتراع البلدي الزخم إلى سيف القذافي وأنصاره بعد فوز قيادات قبلية محسوبة عليه بعدد كبير من المقاعد، تترقب الأوساط المحلية إمكان دخول الرجل على خط الصراع علناً، ومقاربات الأطراف المحلية والدولية للتعاطي مع تلك الخطوة التي يلوّح بها القذافي الابن.
وإذ يؤكد أمطيريد أن الفرقاء في ليبيا لا يريدون تسليم السلطة، لكنه يلفت إلى ضغط سطوع نجم سيف القذافي، لا سيما مع سيطرة أنصاره على ما يقارب نصف البلديات التي اقترعت في المرحلة الأولى، لا سيما في الجنوب الليبي. ويوضح أن من يسيطرون على السلطة، سواء في الشرق أم في الغرب، يمثلون القوى التي ظهرت بعد أحداث شباط (فبراير) 2011، أو من يُسمون بـ“أنصار فبراير“، وصراعهم أدى إلى استعادة شعبية أنصار النظام السابق.
وفي هذا الإطار يؤكد إغنية أن سيف القذافي “يظل أحد الأطراف السياسية المهمة على الساحة ولا يمكن تجاهله رغم محاولات بعض القوى المحلية أو الدولية إبعاده“. ويعزو توسع قواعد تأييده إلى “الفساد الذي استشرى في ظل الحكومات المتعاقبة منذ عام 2011″.
لكن بويصير يُتوقع أن يُسيطر على الانتخابات البلدية في المرحلة الثانية أنصار حفتر في الشرق والميليشيات في الغرب، معتبراً أن “هذا الاقتراع سيكون مجرد خلق مستوى ثان من المؤسسات التابعة للمسيطرين على السلطة“.
__________________