د. حامد عبدالعاطي آلعبيدي
لعبة الغميضة
جاء الشيخ علي بو حامد العبيدي راكباً جواده في وادينا، وأوقف فرسه أمام الشجرة التي كنت أجلس تحتها، وترجّل و عانقني. لم أره منذ مؤتمر الشيوخ في كاف القصور منذ زمن بعيد كما يبدو. ونظراً لحذره، كان آخر رجل أتوقع أن يزورني (في وضح النهار أيضاً) في وقت تلاشت فيه كل الآمال في التحرير السريع لبرقة.
دخل في الموضوع ومباشرة إلى النقطة المهمة: لقد تناهى إلى علم الجنرال پياتي، الحاكم العسكري، إشاعة أن ضباطًا بريطانيين بأجهزة اتصال لاسلكي يعملون في جنوب الجبل الأخضر في وادي الرملة.
كان الجنرال مطلعًا جيدًا على ما كان يحدث داخل قيادته: لقد عاد الإنجليز جميعًا إلى مصر – في الواقع سيتم طردهم من مصر قريبًا جدًا – ولم يكن يوافق على إضاعة وقته بقصص وإشاعات.
قال علي بو حامد آلعبيدي: “ثم استدعاني أنا والشيخ عبدالجليل بوالطيب، قريبي، وشيوخ آخرين من قبيلة العبيدات، وأخبرنا أن معلوماته تفيذ بوجود ضباط إنجليز في وادي الرملة. أقسمنا جميعًا أنه لم يكن هناك ضابط بريطاني واحد طليق في الجبل بأكمله.
في الماضي ربما كان هناك ضابط أو اثنين، دخلو وخرجوا مرة أخرى، عندما كانت خطوط الجيش الإنجليزي في غزالة (المترجم: يقصد عين الغزالة) ولكن منذ فترة طويلة، لم نسمع حتى شائعات عن حدوث أي شيء من هذا القبيل. قال پياتي إن من واجبنا أن نعرف، وليس أن نروج الشائعات، وكان عازمًا على حسم الأمر مرة واحدة وإلى الأبد.
– لذلك فهو سيرسل دورية عسكرية آلية لتمشيط منطقتك، بحثًا عنك.
– سأسافر أنا وعبد الجليل معها، وسنغادر جميعًا من المخيلي ظهر غد. إذا تم العثور عليك، فسوف نشنق أنا وعبدالجليل.
– “باركك وحفظك الله“، قلت. “إلى أين ننتقل الآن؟
قررنا أن ننتقل إلى المخبأ التالي. وعدني علي بو حامد بإرسال مرسال أو عدّاء كل ليلة يحمل أخبار الدورية الإيطالية، ثم استأذنته منصرفاً. حملنا أمتعتنا القليلة، ومحونا آثارنا وانطلقنا.
كان لدينا حراسة من إثنان من العرب متمركزين في حقفة النواميس، القريبة من المخيلي وهي تلة بارزة كانت ملتقانا مع دورية أخرى. أرسلنا إليهم رسالة لإبلاغ الدورية إذا ظهرت أن تبقى بعيدة حتى يزول الخطر.
خلال الأيام الخمسة التالية، لعبنا لعبة الغميضة مع الدورية الإيطالية. كل ليلة، وفقًا للاتفاق، كان يصل عدّاء ويخبرنا بالطريق المقصود للغد، وكنا نتحرك وفقًا لذلك.
طبت هذه الأحداث في صالحنا بالتأكيد، ولكنها كانت حدثًا رياضيًا: فقد قاد الإيطاليون شاحناتهم، بينما سار حوالى 50 فرد منا، تاركين وراءنا أثرًا واضحًا، وقد قيدنا تجوالنا بسبب الحاجة إلى البقاء على مسافة ليلة واحدة من أحد الآبار الأربعة الوحيدة المتاحة، حيث لم يكن بوسعنا حمل أكثر من إمدادات يوم واحد من المياه.
وقد افترض الإيطاليون بسذاجة أننا سنختبئ في أحد الأودية الرئيسية حيث يمكن للشجيرات والكهوف أن توفر لنا قدرًا معينًا من الغطاء، فتمسكوا بهذه المجاري المائية؛ لكننا لجأنا إلى الهضبة المفتوحة المرتفعة بين الأودية.
ولم توفر لنا هذه الهضبة المتموجة بلطف من الحجارة والحصى، والتي تنتشر عليها الشجيرات بشكل متفرق، أي أماكن للاختباء، وكانت معسكراتنا مرئية على بعد أميال. ولأنَّ الهضبة كانت في متناول حركة المرور بالسيارات، فقد كان بوسع الإيطاليين أن يخرجوا من الأودية، إذا أرادوا ذلك: وفي هذه الحالة كانت لديهم فرصة جيدة للقبض علينا.
ومن خلال المحصلة بين الإدارة الجيدة لأصدقائنا العرب، الذين عملوا في الواقع كمرشدين لدورية السيارات الأيطالية، وبسبب عدم كفاءة الإيطاليين، نجحنا في الهروب، ولكن في اليوم الثالث اقتربوا منا كثيرًا حتى سمعنا هدير محركاتهم في الوادي. وفي الليلة الخامسة أشار الشيخ علي بو حامد العبيدي إلى أن الإيطاليين، الذين كانوا يتحركون الآن نحو الغرب، أعلنوا أن وادي الرملة أصبح خاليًا من الأعداء، ونصحني بالانتقال إليه.
وجدنا مساحة كثيفة من الوادي مغطاة بالأشجار، حيث استرحنا في الظل، وأرحنا أقدامنا البائسة، وطلبنا من المهندسين من جنوب أفريقيا استئناف عملهم في البطاريات اللاسلكية.
عادت الدورية الإيطالية إلى ديارها بدون العثور علينا.
ضجيج المركبات
في صباح اليوم الثالث من استراحتنا، وبينما كان الرقيب يبلغنا أنه على وشك اختبار جهاز اللاسلكي بالبطارية التي أعيد تنشيطها، جاء أحد العرب الذي كان يراقب من أعلى أحد التلال حاملاً نبأ أنه سمع ضجيجًا لمركبات في اتجاه الجنوب الشرقي؛ وبعد ذلك بقليل أبلغنا رجل آخر أنه رأى للتو شاحنات مجهولة الهوية تتجه نحو الوادي، على بعد ميلين تقريبًا.
أرسلت رسالة على طول الخط للاختباء وسرت إلى كوخ تشاپمان، حيث كان يعيش داخل شجيرة كثيفة ومرتفعة بشكل خاص.
وجدته يحلق ذقنه وأخبرته بالخبر. نظر إلى البندقية غير المعتادة في يدي وقال، بلا تأثر على الإطلاق:
– هل هناك أي شيء يمكننا فعله؟
فكرت في الخمسين رجلاً غير مسلحين في رعايتنا.
– لاشيء على الإطلاق!
– “حسنًا“، قال تشاپمان. “سأستمر في الحلاقة“، ثم رمى برغوة الصابون.
ألقيت سلاحي وجلست عند مدخل كوخ تشاپمان. كان رجالنا جميعًا قد اختبأوا وبالكاد يتنفسون: لكن القمامة المنتشرة كانت كافية لفتح عيون الإيطاليين علينا. استطعت الآن سماع الشاحنات المقتربة وهي تسير بسرعة منخفضة عبر الرمال الثقيلة. عندما رأيت أول شاحنة تقترب ببطء من خلال الفروع حول المنحنى في الوادي – فجأة اقتربت كثيرًا – نهضت وتقدمت لمنعها: إذا كنا سنستسلم، فليكن استسلاماً لائقًا ومنظمًا، دون أي اهتزاز وخوف من اجساد مترددة وبدون إطلاق النار.
ومع اقتراب الشاحنة، تعرفت عليها: شاحنة شيڤروليه تزن ثلاثة آلاف رطل تحمل خمسة رجال ملتحين، وجوه مألوفة ومبتسمة من الدورية توقفت وقفز هانتر؛ صافحته، متظاهرًا بأنني كنت أعرف طوال الوقت من سيأتي. خرج تشابمان من كوخه عندما انتهى من الحلاقة.
كان هانتر وشاحناته السبع قد وصلوا قبل يومين: فزعًا من صمتنا على اللاسلكي، ظن أننا قد نكون في ورطة، فأسرع إلى نقطة الالتقاء في حقفة النواميس، حيث وجد عربيين أرشداه إلى معسكرنا.
كانت الأخبار التي أحضرها هانتر جيدة: فقد توقف العدو، مُنهكًا، في العلمين، خفت صيحاتنا وانتشرت روح الهجوم بين قواتنا منذ وصول قائد جديد للجيش الثامن. كانت هناك العديد من الخطط قيد التنفيذ، والتي كان يُعرف عنها فقط أن ستكون جزءاً من هذه الخطط، وأن أحدهم قال إنه إذا كان لا يزال پوپسكي حياً وطليقاً، فسوف يكون مطلوباً منه القيام بإحدى العمليات.
وبسبب هذا الاحتمال، طردت من ذهني أي ميل للسماح لهانتر بالعودة إلى مصر بدوني، وتنازلت عن عرش الجبل بكل سرور. لم يكن رعيتي السنوسية، على حد اعتقادي، آسفين لرؤيتي أرحل، وكانوا يتطلعون إلى استراحة من القلق المستمر على سلامتنا مؤخراً. وأكدت لهم أن بلادهم سوف تتحرر، وأنني سأعود قبل الشتاء؛ والغريب أنهم صدقوني، والأغرب من ذلك أن الأمر حدث كما قلت ووعدت.
ولكن قبل أن أذهب، أردت أن أنهي الأمور العالقة وأن أترك كل شيء على ما يرام. لقد استدعينا أولئك الدائنين الذين يمكن الوصول إليهم في الوقت المناسب، وعينَّا ممثلين للآخرين، وباستخدام الأموال التي أحضرها هانتر، قمنا بسداد جميع ديوننا.
أرسلت فرسي البيضاء، بيردي بيرد، إلى علي بو حامد العبيدي، أعز أصدقائي بين السنوسيون، والذي كنت مدينًا له حقًا بكل النجاح الذي حققته بفضل دعمه السري والقوي.
***
د. حامد عبدالعاطي آلعبيدي مستشار في الشأن الجيوسياسي. ابن رئيس وزراء ليبيا الاسبق الراحل الاستاذ عبدالعاطي ابراهيم آلعبيدي
_______________