الحبيب الأسود
لن يتغير المشهد الليبي طالما أن الميليشيات لن تحل والسلاح منفلت والمؤسسة العسكرية لم تتوحد.
قالت ستيفاني خوري إن ليبيا ستستحضر بعد أيام ذكرى مرور ثلاث سنوات على تأجيل انتخابات 2021 الوطنية إلى أجل غير مسمى وإن الوحدة الوطنية للبلاد وسلامة أراضيها تظلان في خطر مع استمرار الإشكاليات التي لم يتم التوصل إلى حل بشأنها في تعطيل العملية السياسية.
تلك الانتخابات كانت مهندستها ستيفاني وليامز التي فشلت في الإيفاء بوعودها ووجدت نفسها خارج اللعبة أمام عاملين مهمين؛ دهاء الفرقاء الداخليين المسيطرين على مراكز القرار والساعين للمحافظة على امتيازات السلطة، والتدخل الخارجي الذي يريد انتخابات تكون نتائجها على مقاس مصالحه في البلاد، حيث أن العواصم الغربية بالخصوص لا ترى مانعا من عرقلة المسار الديمقراطي إذا لم يكن موافقا لحساباتها السياسية والإستراتيجية وللخارطة الجيوسياسية التي تطمح لرسمها في المنطقة.
وفشلت وليامز في تحقيق الأهداف التي كانت قد ركزت عليها اهتمامها كإجلاء المرتزقة من البلاد وفق ما نص عليها اتفاق وقف إطلاق النار الموقع في جنيف في اكتوبر 2020.
واعترفت وليامز بأن البلدان ذات المصالح الخاصة في ليبيا «استخدمت وكلاءها المسلحين على الأرض في تعزيز أولوياتها الوطنية المتنوعة، والمتنافسة أحيانا.»
ولا يستبعد الليبيون أن يتكرر الفشل، فستيفاني الثانية لن تكون أقدر من ستيفاني الأولى على قمع نزعة الفساد في نفوس من يعتقدون أن مصلحة الفرد فوق مصلحة الوطن وشرف الانتماء إلى القبيلة يتجاوز بكثير شرف الانتماء إلى الدولة.
ترى خوري «إن الوضع القائم لم يعد قابلا للاستمرار وقد طال أمده لفترة طويلة للغاية،” أما عن الإجراءات أحادية الجانب التي تتخذها النخب السياسية فإنها “أمعنت في تقويض المؤسسات الليبية وحولتها إلى هياكل موازية تتصارع فيما بينها.»
على السيدة خوري أن تدرك أن رئس الحكومة الليبية المنتهية ولايتها عبدالحميد الدبيبة لن يتخلى عن الحكم ولو بعد عشر سنوات
إلى حد الآن ليس هناك ما يشير إلى إمكانية حصول تحول في هذا الوضع الشائك. عمليا هناك نظامان قائمان أحدهما ميليشياوي والثاني عسكري، وما يجمع بينها هو العمل على تكريس حكم العائلة، ربما بوجه وراثي في برقة أو ربما بوجه جمهوري مزيف في المنطقة الغربية.
وقد يكون الميل إلى النظام الملكي في الشرق والنظام الجمهوري في الغرب هو الذي جعل الزعيم الراحل معمر القذافي يتجاوز النموذجين بالبحث عن نموذج ثالث هو النظام الجماهيري الذي لبس بدوره ثوب العائلة، وأعطى مفاتيح الثروة لعدد من الفاسدين الكبار الذين يستغلون ما نهبوه سابقا في تسيير أوضاع ما بعد الإطاحة به.
تقول خوري إن الأزمة الأخيرة حول قيادة مصرف ليبيا المركزي كشفت عن مدى هشاشة الاستقرار الظاهري الذي يغلف الجمود السياسي الذي طال أمده في ليبيا. الأمر الذي يعيد إلى الأذهان بأن الوقت قد حان لتأسيس ليبيا لمؤسسات قوية تتصدى لمسألة الإنفاق غير المنضبط والعجز المالي الذي يلوح في الأفق مع احتمال انخفاض أسعار النفط العالمية، وأن استمرار الانقسامات حول رئاسة المجلس الأعلى للدولة يمثل حائلا دون تمكن المجلس من الاضطلاع بمهامه.
وبالنسبة لها هذا مثال آخر على تداعي البنيان الانتقالي في ليبيا تحت وطأة الاستقطاب السياسي وغياب مشروع واضح لنظام دائم للحكم.
الواقع أن تلك الأوضاع مرتبطة بالتدخلات الخارجية التي كانت وراء حالة الانقسام الحاد التي تعرفها البلاد منذ العام 2011. المجتمع الدولي أطاح بجميع مؤسسات الدولة، وحاول أن يجعل من انتفاضة ليبيا نموذجا للثورة في بلد غني بالنفط، وأراد أن يفرض نماذج ثقافية وافدة على مجتمع تقليدي محافظ.
تم التمكين لتيارات الاسلام السياسي في السلطة العشوائية التي تشكلت بعد الاطاحة بالنظام رغم أنها لا تحظى بأية شعبية في الشارع. مجلس الدولة الذي تتحدث عنه خوري تم انتخاب أعضائه في العام 2012 في سياق المؤتمر الوطني العام. ثم تقررت إعادة تدويرهم وفق اتفاق الصخيرات في ديسمبر 2015 بتدخل مباشر من تركيا وقطر وبعض الدول العربية وكذلك بالمساومات التي دارت من تحت الطاولة. المال كان جزءا من أي اتفاق بين الليبيين.
المال ليس فقط قوام الأعمال، وإنما قوام التوافقات السياسية، وتقاسم الثروة هو أساس تقاسم السلطة
تعترف خوري بأن التسابق بين الأطراف المسلحة المتعددة الساعية إلى بسط سيطرتها على المناطق ووضع أيديها على الموارد، لايزال يهدد استقرار ليبيا.
هذا الأمر اشتكت منه ستيفاني الأولى قبل سنوات، وتحدث عنه كل المبعوثين الأمميين السابقين الذين اكتشفوا دائما أنهم أضعف بكثير من أن يكون لهم القرار الحقيقي القادر على تغيير الأوضاع.
وبناء عليه على السيدة خوري أن تقتنع بخمس حقائق مهمة:
أولا: لن يكون هناك أي تغيير في ليبيا خلال المرحلة القادمة إلا بالتوافق على نظام سياسي فيدرالي يسمح للقائمين الحاليين على الحكم في طرابلس وبنغازي بضمان مصالحهم وامتيازاتهم.
ثانيا: المال ليس فقط قوام الأعمال، وإنما قوام التوافقات السياسية، وتقاسم الثروة هو أساس تقاسم السلطة.
ثالثا: على السيدة خوري أن تدرك أن رئس الحكومة الليبية المنتهية ولايتها عبدالحميد الدبيبة لن يتخلى عن الحكم ولو بعد عشر سنوات، وهو يمنّي نفسه بالبقاء لمدة ربع قرن، لاسيما أنه يستفيد من تناقضات المصالح الخارجية، ومن صراع النفوذ بين الغرب والروس، ومن رعاية الأتراك والتحالف مع تيار الإسلام السياسي.
رابعا: يعتقد مجلس النواب وأكثر من نصف مجلس الدولة وكثير من القوى السياسية والاجتماعية في عدم القدرة على تنظيم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية إلا بتشكيل حكومة واحدة قادرة على بسط نفوذها في كافة أرجاء البلاد.
خامسا: لن يتغير المشهد الليبي طالما أن الميليشيات لن تحل، والسلاح المنفلت لم يجمع، والمرتزقة لم يتم إجلاؤهم، والقوات الأجنبية لم تغادر البلاد، والمؤسسة العسكرية لم تتوحد، والدولة لم تستعد سيادتها، وجماعات الفساد السياسي لم تجد من يحاسبها. وطالما أمراء الحرب يجدون في الوضع الحالي خير إطار للإفلات من العقاب وللتحول إلى مسؤولين كبار بدل الخضوع لمحاكمة عادلة، وطالما أن المصالحة الحقيقية مؤجلة فقط لمنع رموز النظام السابق من المنافسة على الحكم، وطالما أن خطاب التكفير يُلقَى على منابر السلطة في طرابلس من قبل دار الإفتاء الحكومية.
_____________________