خالد علي إبراهيم
حين أتابع بعض النعرات التي تبث عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تدعو لإقصاء الآخر، وتهميش الأقليات، وبمثل ذلك تكون ردّات الأفعال، فتكون وسلية الهجوم هي الدفاع، أتساءل؛
منذ سنوات وأنا أتابع هذا الكم من تبادل الاتهام اللفظي، والانحراف السلوكي الذي لم يتغير البتة، لربما كانت عندي حمية تجاه الحق الذي أؤمن به، فكانت ردة الفعل مثل ذلك أو شبيهة، إلا أني تخلصتُ منها بطريقة أو بأخرى؛ لأني أصبحتُ أؤمن أن البناء الحقيقي يكون من الداخل.
أول نتائج هذا البناء الداخلي هو صقل الإنسان لنفسه، وتغيّره وتطوّره واستيعابه لدنيا العالم بصورة بعيدة عن السّطحية والسذاجة واللاعقلية.
فالتغيّر الأساس الأول لمواكبة واقع المرء وما يحتاجه وما يريده، والمتابع لعالم المادة يرى أنّ التغيّر دلالة على التجدّد والنضج والحسن، فالمياه الجارية أفضل من المياه الراكدة، وشروق الشمس البهيج وتغيّر أفقها اليومي دلالة على التجدد.
حتى في تاريخ الأمة يجد القارئ أن شافعي العراق غير شافعي مصر، وأن ابن خلفون قبل الانفتاح على عالم القراءة غير الذي بعده، هذا التغيّر النفسي له دوره في إنتاج العقلية المستقلة التي تشكل وتبلور قواعد ثابتة لها ثقلها العلمي والفكري والأدبي.
أظن أن الاشكال الرئيس هو صعوبة فهم الواقع الحقيقي الذي يمر به عالم اليوم، من غياب وعي جذري لكافة المعتقدات، وإلزامية الاعتراف بالوجود أو المنهج، وفي هذا استحضر ما تعلمتُه من أستاذي المرحوم “عاشور كسكاس حين قال: ” إنّ المرء ليس ملزما بجعل الناس تتبعه، أو تعترف بفكره، فالفكر الصحيح هو الذي يجذب الناس إليه، والأفكار في قوتها لا في ترويجها”
وهذا ما جعل أفكار “جابر بن زيد” شامخة إلى يوم الناس هذا، وأتباعه سامقون إلى أنْ يرث الله الأرض ومن عليها.
بهذا التكوين وهذه الحمولة الثقافية والعلمية والعقلية التي يتكئ عليها المرء يستطيع أن ينتقل لدرجة الأخرى التي تليها وهي ” وأنذر عشيرتك الأقربين” أن يبدأ بدعوة أسرته الصغرى، وتكوينها وبث روح الدين الصادق فيها، وزرع ثقافة الاعتراف والتعارف والمعرفة فيهم، إذ أسس لهذه الفلسفة المفكر الكبير ” علي يحيى معمر” لمحق الطائفية النتنة، وبيان مدى سعة الشريعة ورحابتها، ومقصد الدين وغايته، بهذا النمط الأسري تبدأ التجربة واضحة أمام الداعية في مشروعه الفكري والدعوي، ويسهل له الانطلاق في الشريحة الأكبر حجمًا من الأسرة، وهو الحيّ الذي يعيش فيه والقرية التي ينسب إليها والمدينة التي ترعرع فيها، فيؤسس فيها طلابًا يحملون هذا الإشعاع وينطلقون به تجاه الأمة جمعاء.
وهذا ليس بجديد في تأريخ الأمة، فقد سلك هذا المسلك الإمام الفقيه “أبوعبيدة التميمي” رضوان الله عليه، فانطق طلابه من البصرة إلى عُمان وخراسان وحضرموت وطرابلس الغرب يحملون راية الدعوة للدين الإسلامي الناصع، البعيد عن التحزّب والتفريق، والطائفية والتكفير، وقد أثبتت دولهم ذلك حين تعايش معهم غيرهم من مخالفيهم من المسلمين وغيرهم من الأديان، فذاك “ابن الصغير المالكي” يروي في رسالته أخبار الرستميين وأئمتهم في بلاد المغرب، وحكم وعدلهم بين الناس، وهذه شهادة تخطّ بماء الذهب على ذلك السلف الناصع.
ولا أفوّت خبر “التندميرتي أبي منصور إلياس” الذي استنجدت به طرابلس إبان غزوها من “ابن طولون” فجاءها بجيشه محررًا إياها دون أنْ يأخذ درهما ولا دينارا، وهذا الخبر أورده غير واحد في كتب الأخبار والمقالات، آخرهم الشيخ الطاهر الزاوي والشيخ علي يحيى معمر، وإن كان بشيء من التصحيح لما وقع فيه الشيخ الطاهر.
بهذا النهج سار سلفنا الصالح، إذ اهتموا بالبناء الداخلي؛ وتنشيئة الطلاب، وتوحيد الكلمة، وجعل الجميع تحت راية واحدة، وهذا سر نجاح الفكر الناصع وصموده وبقائه طيلة هذه القرون.
فأسأل الله القدير في هذه العشر المباركات أن يوحد صفنا ويجمع كلمتنا ويحقق رجاءنا ويبلغ مرادنا فإنّه ولي ذلك والقادر عليه.
__________
المصدر: صفحة الكاتب على الفيسبوك