عمر الكدي
ثمة علاقة بين نمط الإنتاج والألقاب في الشخصية الليبية. كل من هاجر مبكرًا إلى طرابلس أطلق عليه لقب المنطقة التي جاء منها. المصراتي الترهوني الغرياني الورفلي المسلاتي الزليتني الورشفاني الصويعي الزنتاني الرجباني الرياني العجيلي الصرماني الزاوي الجنزوري الفزاني والجبالي.
كان ذلك عندما كانت المدينة تنتقي وتفرض شروط الاندماج على القادمين، ويبدو أن هذه الألقاب وضعت لتمييز القادمين عن السكان القدماء للمدينة، فمهما عشت في المدينة ستعيش على هامشها ويشير لقبك إلى المكان الذي جئت منه، ولكن عندما فقدت المدينة سطوتها دخل سكان الريف إلى المدينة بألقابهم التي عرفوا بها في قراهم.
على الرغم من مركزية طرابلس وسطوتها، إلا أننا لا نجد لقب الطرابلسي متداولًا بين سكانها. لقب الطرابلسي هو اللقب الأكثر انتشارًا في تونس اليوم، ويشير لكل مهاجر قادم من ليبيا، بينما نجد لقب التونسي أكثر انتشارًا في ليبيا من تونس نفسها، ويشير إلى المهاجر القادم من تونس أو أحيانًا لليبي العائد من تونس، في حين يطلق لقب التزيري على القادمين من الجزائر ولقب المغربي على القادمين من المغرب، وأيضًا على أبناء قبيلة المغاربة في أجدابيا ووادي الشاطئ، وهي قبيلة من قبائل السعادي ولا علاقة لها بالمغرب، بينما قبيلة المغاربة في غريان وورفلة قدمت من المغرب.
تنتشر الألقاب المرتبطة بالمهن في طرابلس أكثر من انتشارها في ريفها. الكواش والسنفاز والخضار والحداد والحوات والجزار وغيرها، كما تنتشر الألقاب التركية وإن حرفت، مثل آغا والشاوش والكرغلي ومامي وجرناز وبيرم والأرناؤوطي والتركي والتريكي وخوجة وعصمان وصفر والأزمرلي وشلبي وأصلها جلبي وتعني المؤدب، كما توجد ألقاب للقادمين من اليونان ومالطا مثل طاطاناكي وسفراكس وبيزان والقريتلي والمالطي وقرجي والمملوك ومراد وإسكندر وحجي وحاجي والكردي وغيرها.
عندما نبتعد عن المدينة تستمر الألقاب التركية في التواجد، وتقل ألقاب المهن ويظهر لقب الفلاح والفقي والإمام والشيخ والحاج. كان الحج مغامرة صعبة تستغرق عدة أشهر وقد لا يعود الحاج، والجلاب والراعي والطهار والحسان «الحلاق» والمدير والطبيب، وهي ألقاب تناسب النمط الثاني من الإنتاج وهو نمط الزراعة المروية.
وعندما نصل إلى النمط الثالث وهو نمط الزراعة البعلية تتغير الألقاب، ولا يبقى إلا لقب الحداد والألقاب الدينية والعسكرية، ولأن هذه المناطق يكون مركزها زراعيًّا بعليًّا وتربية الماشية الصغيرة، وعلى أطرافها وعندما ينحدر الجبل نحو الصحراء يظهر النمط الرابع من الإنتاج وهو تربية الإبل، وهذا النمط موجود في ورفلة وبعض قبائل ترهونة وغريان قرب جبل غان حيث رعى عمرو قذاف الدم جد القذاذفة ماشية وإبل قبيلة الكميشات، عندها تتغير الألقاب وتصبح أكثر وحشية، وخاصة بين القبائل التي اعتمدت على تربية الإبل،.
فنجد الألقاب المرتبطة بالعاهات والحيوانات المفترسة، العايب والأعمى والأعور وعوير والفرطاس والمريض والبكوش والأطرش والزحاف، ومجتمع يتكون من البدو الرحل في بيئة شبه صحراوية تكون الإعاقة لعنة، تمنعه من سرعة الحركة والقتال.
كما تظهر ألقاب الحيوانات المفترسة وغير المفترسة، مثل الصيد والديب والضبع والصقر واللفع وبونعامة والجدي والجمل والقعود، والفأر والجربوع والقنفود والبركوس والتلب، وهي ألقاب مشتركة بين نمطي الإنتاج الثالث والرابع، وهي نفس الأسماء والألقاب التي كانت تحملها القبائل العربية في الجزيرة العربية، وتعمد العرب إطلاق الأسماء المتوحشة على أنفسهم مثل حرب وصخر وأسد وضرغام وكليب وثعلبة ليواجهوا بها أعداءهم، بينما أطلقوا على عبيدهم أسماء جميلة ليتفاءلوا بها، مثل ياقوت وسرور وفيروز وصباح وجمانة، فسياف هارون الرشيد الذي كان يقطع رؤوس المغضوب عنهم اسمه سرور.
ذات مرة قابلت رجلًا من قبيلة بدوية ترعى الإبل يدعى عون عجاج لبز، وعون هي الريح الشديدة وعجاج هي الريح المتربة، ولبز تعني التربة المبتلة التي يصعب المشي فوقها، فقلت له لماذا لم يسموك عاصفة؟
كما تنتشر في النمط الثاني والثالث والرابع من الإنتاج أسماء الأولياء الصالحين، حيث لكل قبيلة وليها الصالح، وتسود بين قبائل برقة سواء كانوا سعادي أو مرابطين ألقاب جد القبيلة، عبيدي برعصي فاخري شاعري درسي مغربي زوي.
ولكن داخل القبيلة تنتشر ألقاب متوحشة ودينية وتقريبًا تختفي ألقاب المهن وكل ما له علاقة بالزراعة، وفي الجنوب تنتشر الألقاب القبلية حساونة مقارحة عكارة حطمان ورفلة الطارقي التباوي.
ولكن لا توجد ألقاب تشير إلى المدينة مثل السبهاوي والأوباري والمرزقاوي وإن ظهر مؤخرًا لقب الغاتي.على عكس قبائل الجفرة التي تنسب نفسها للبلدات مثل الهوني والوداني والسوكني والزلاوي، وفي غرب ليبيا وجنوبها ينتشر لقب الشريف، نسبة إلى الأشراف من قريش وطبعًا هناك من تعود جذوره إلى قريش وهناك من يدعي ذلك، نظرًا للمكانة الرفيعة التي كان يحتلها هؤلاء حيث أقاموا.
أنماط الإنتاج المختلفة ترفض بعضها عندما تصطدم بنمط يختلف عنها كليًا، وهذا ما حدث لليبيين الذين عادوا من تونس بعد الاستقلال. الذين عادوا من المدن استقروا في المدن وخاصة طرابلس، فرفضتهم المدينة وأطلقت عليهم لقب «عائدون»، لأنهم جاءوا من نمط إنتاج أكثر تطورًا حتى من الشخصية الطرابلسية، عادوا يتحدثون الفرنسية بطلاقة ويصطحبون زوجاتهم السافرات إلى كل مكان، ويتفوهون بكلمات يعتبرها الليبيون بذيئة، ويجيدون تملق المدراء والمسؤولين.
أما الذين عاشوا في الريف التونسي وعادوا إلى القرى التي هاجروا منها، فقد اندمجوا أسرع من العائدين إلى طرابلس، إلا أن أقاربهم أجبروهم بالسخرية على هجر اللهجة التونسية والعودة إلى لهجتهم المحلية، وأذكر أن أحد أقاربي عاد إلى قريتنا بعد أربعين عامًا من العيش في الريف التونسي، ومنذ اليوم الأول أطلق عليه سكان القرية لقب التونسي بسبب لهجته التونسية الواضحة، فكان يشعر بالغضب ويهدد بالعودة إلى تونس، قائلًا سبحان الله عشت أربعين عامًا في تونس يسمونني عبد الله الطرابلسي، وفي بلدي حيث ولدت يسمونني عبد الله التونسي.
وهذا ما حدث مع الليبيين الذين اضطروا زمن القذافي إلى مغادرة البلاد، فبعد أن عادوا اختار لهم الليبيون لقبًا يتماشى مع العصر الرقمي فأطلقوا عليهم لقب «دبل شفرة»، وهو ما يؤكد أنه على الرغم من اختفاء أنماط الإنتاج وتحول المجتمع الليبي إلى مجتمع ريعي، يعتمد بالكامل على عوائد النفط، إلا أن ثقافة أنماط الإنتاج لا تزال موجودة بقوة.
__________________