داود علي
في وقت تواصل فيه الإمارات استثماراتها المتصاعدة في مدينة بنغازي، أهم مدن الشرق الليبي، وثاني أكبر مدن البلاد بعد العاصمة طرابلس، يبقى مصير السكان المحليين في مهب الريح.
ويرجع ذلك إلى إستراتيجية ممنهجة تتبعها أبوظبي هناك، مما يزيد من حالة القلق والفوضى في عموم ليبيا التي مزقتها الحروب والتدخلات الخارجية.
الأخطبوط الإماراتي
وفي حديث موجه للشعب، خرج مفتي عام الديار الليبية الشيخ الصادق الغرياني، في 20 سبتمبر/ أيلول 2024، محذرا من التدخلات الإماراتية في بنغازي.
وقال الغرياني إن “الإمارات تعمل على استغلال الظروف الاقتصادية الراهنة في بنغازي، لشراء الأراضي والعقارات بأسعار مرتفعة، ثم تستخدم قوات خليفة حفتر كأداة للضغط على السكان المحليين، وطردهم خارج منازلهم وأراضيهم“.
ووصف مفتي عام ليبيا تلك الأفعال بأنها “تمثل انتهاكا صارخا لحقوق الإنسان”.
وأكد على “تحول بنغازي إلى ساحة للصراعات الاقتصادية والسياسية، حيث تستخدم المشاريع الإماراتية التجارية كغطاء لتحقيق أهداف إستراتيجية أكبر“.
وندد الغرياني بهذا “التدخل الخارجي“، محذرا من “عواقبه الوخيمة على مستقبل ليبيا عموما، والمدينة وسكانها خصوصا”.
وعلق نشطاء ليبيون بالقول إن “الإمارات تفعل هناك كما فعل الكيان الصهيوني عام 48.. يشترون الأراضي في بنغازي غصبا لبناء مشروعاتهم الاستيطانية“.
ويرجع سبب خروج الغرياني” بهذا الحديث، للزيارة التي قام بها رجل الأعمال الإماراتي محمد علي العبار الذي يوصف بـ“الأخطبوط“، إلى بنغازي في 15 سبتمبر.
واستقبله اللواء الانقلابي حفتر، الذي تسيطر قواته على المدينة والمنطقة الشرقية عموما، بدعم من الإمارات.
وأعلنت صحيفة “الوسط” الليبية أن اللقاء الذي تم بين العبار وحفتر، شمل مناقشة مجموعة من المشاريع الإستراتيجية التي سيتم تنفيذها خلال الفترة المقبلة.
وذلك في إطار العلاقات الوثيقة بين حفتر والإمارات، وقد حضر اللقاء رئيس الحكومة المكلفة من مجلس النواب (غير المعترف به دوليا) أسامة حماد.
وكذلك، عميد بلدية بنغازي المهندس صقر بوجواري، ورئيس أركان قوات حفتر البرية، نجله صدام حفتر، أحد المقربين أيضا من الإمارات.
وعقب اللقاء، أعلنت القيادة العامة للقوات الموالية لحفتر أنه تم توقيع عقد مع شركة “جلوبال بلدرز” الإماراتية برئاسة العبار، لتنفيذ مشروع المنطقة الحرة “المريسة“.
ووصفته بأنه “من أكبر المشاريع في ليبيا ومنطقة شمال إفريقيا“.
كما أوضحت أنه بالإضافة إلى التعاقد على تشييد المنطقة الحرة، تم توقيع عقد تنفيذ مشروع منطقة بنغازي الجديدة أو “الداون تاون“.
لماذا المريسة؟
ولا يمكن إغفال أن العبار الوافد الإماراتي إلى ليبيا لإقامة مشروع “المريسة“، قدم سابقا تبرعات “سخية” لمشروع “إسرائيلي” يقدم مساعدات غذائية لآلاف الأسر “الإسرائيلية” الفقيرة، بحسب صحيفة “كالكاليست” العبرية عام 2021.
وبلغت قيمة تبرعات العبار لإسرائيل 550 مليون شيكل (أكثر من 170 مليون دولار) موزعة على مدى 18 سنة.
وسبق أن أثار العبار جدلا في كلمة له بمؤتمر اقتصادي “إماراتي إسرائيلي“، حينما تحدث عن “أهمية العلاقات العائلية بين الإماراتيين والإسرائيليين قبل العلاقات التجارية”.
وقتها أكد العبار على ضرورة تقوية الروابط العائلية بين الطرفين، مشيرا إلى أن العلاقات التجارية “ستأتي بعدها“.
وبالنظر إلى منطقة “المريسة” التي تسعى الإمارات إلى السيطرة عليها وتهجير أهلها لتنفيذ خططها، فإنها أهم منطقة إستراتيجية في بنغازي، ويقطنها نحو 100 ألف شخص، وتتميز بموقعها القريب من “ممر سوق” الذي تعبر من خلاله السفن القادمة من قناة السويس.
ويعد الممر نقطة تماس لخطوط التجارة البحرية الدولية الحديثة، عبر البحر المتوسط الذي يعد من البحار الأكثر ازدحاما بالتجارة البحرية، حيث التفريغ والتحميل للبضائع القاصدة دول أوروبا الواقعة قبالة المتوسط، وأيضا دول الساحل الشرقي للمتوسط ودول شمال إفريقيا ودول إفريقيا الحبيسة مثل إثيوبيا.
وتقع المريسة مباشرة على ساحل البحر غرب مدينة بنغازي، وتقدر مساحة المنطقة الإجمالية 1300 هكتار وتبعد عن وسط المدينة بمسافة 20 كيلو مترا وتشمل شبكة طرق مربوطة ومتجانسة.
ومما حفز الصفقة بين الإمارات وحفتر أن “المريسة” تنقسم إلى قسمين لجذب الاستثمار المحلي والدولي، وهما القسم الصناعي والقسم المدني.
وتشمل المناطق الصناعية، محطة توليد الطاقة وتنقية المياه، ومنطقة الميناء البحري، ومنطقة الخدمات الصناعية، ومنطقة معالجة الصرف، ومنطقة الخدمات النفطية، ومنطقة الصناعات التحويلية.
أما المدني، فتشمل منطقة الخدمات السياحية، وإدارة المنطقة الحرة المريسة، والمدينة الذكية، ومنطقة الخدمات الإعلامية، ومنطقة الخدمات المالية.
ضربات سابقة
لكن هناك بعدا مختلفا لنظرة الإمارات نحو المريسة، وهو تسهيل الدعم العسكري واللوجيستي لحليفها حفتر ومليشياته.
ومما يذكر أنه خلال الحرب الأهلية الليبية (2014 – 2020)، تحديدا في 22 أغسطس/ آب 2015، قام سلاح الجو التابع لقوات فجر ليبيا (الشرعية) بتوجيه ضربة عسكرية لجرافات وحاويات في المريسة.
وأعلنت مصادر لصحيفة “ليبيانكو” المحلية أن الضربة كانت قوية وخلفت انفجارا هائلا بسبب الذخائر والأسلحة الإماراتية التي كانت على متن جرافة، وكانت موجهة لدعم مليشيا حفتر المتمركزة في بنغازي.
يذكر أنه في 16 ديسمبر/ كانون الأول 2018، نشر موقع “موند أفريك” الفرنسي، تقريرا له يؤكد أن الاهتمام الإماراتي بليبيا ظهر مباشرة بعد رفع العقوبات الدولية التي فرضها مجلس الأمن على ليبيا عام 2003.
وأنه وبعد رفع أميركا عقوباتها الاقتصادية عن العقيد معمر القذافي عام 2004، أولت أبوظبي لليبيا وضعية خاصة.
وأورد الموقع أن الإمارات تدخلت عسكريا في ليبيا منذ عام 2011 ودعمت الانقلاب الذي حدث تحت مسمى عملية “الكرامة” التي أطلقها حفتر في مايو/ أيار 2014. وشكل هذا الدعم نقطة تحول هامة في موقف الإمارات من السياسة الليبية.
ثم شارك سلاح الجو الإماراتي مباشرة ولأول مرة في المعارك المحتدمة بين أطراف الصراع الليبي، من أجل السيطرة على العاصمة طرابلس، علما بأن طائراتها انطلقت من الأراضي المصرية.
وعملت أبوظبي على استهداف التحالف الإسلامي “فجر ليبيا“، فبعد مضي بضعة أشهر من الانقلاب شنت الإمارات غارة جوية عبر قوات خاصة أغلب عناصرها من الإماراتيين استهدفت مخيما “إسلاميا” في مدينة درنة استنكرتها الولايات المتحدة والدول الأوروبية المتدخلة في ليبيا.
انفجار منتظر
وعلق الصحفي الليبي، عمر الحاسي، على الدور الإماراتي الجديد الذي تلعبه في بنغازي عبر محمد العبار وشركات رائدة ونافذة في مجال التطوير العقاري.
وقال الحاسي لـ“الاستقلال” إن “السكان والشعب الليبي هم آخر ما يفكر فيه حفتر ومن قبله الإمارات التي قصفت ليبيا بالطائرات وقتلت عشرات العائلات في درنة والجفرة وخلال الحرب عموما، التي لولا الإمداد والأسلحة الإماراتية لما اشتعلت ووصلنا إلى هذه النقطة“.
وشدد على أن “أطماع الإمارات في بنغازي يتجاوز نظرتها إلى آبار النفط والشأن الاقتصادي فقط، بل هو توغل لوجيستي وفقا لخططهم في عموم ليبيا، لأن بنغازي هي عاصمة حفتر ومركز قواته، وهي المنطقة المتحكمة في الشرق وخطوط اتصالاته”.
واستطرد: “وبالتالي فإن دعمها والتحكم في موانئها وقدراتها أمر بالغ الأهمية، وسيطردون السكان من كل تلك المنطقة حتى وسط المدينة، ولا يمكن أن نغفل أن المريسة على بعد خطوات قليلة من وحدة كتيبة الصاعقة والمظلات التابعة لحفتر”.
وأوضح الحاسي أن “مخطط أبو ظبي قائم على أن تصبح الإمارات أهم جهة فاعلة في ليبيا، لا من حيث البعد العسكري فقط، بل بترسيخ النفوذ على المدى الطويل”.
ولفت إلى أن “الإمارات تدفع بوضوح حفتر لخوض مغامرة جديدة، وهو ما ظهر خلال الأشهر الماضية بتحرك قواته على حدود الغرب، ومحاولة استهدافها مدينة ومطار غدامس“.
وأكد الحاسي أنه “لو بقي الحال على ما هو عليه سنشهد انفجارا في ليبيا وعودة لأيام الحرب الدموية السابقة، بل ستكون أشد ضراوة”.
_______________