يوسف لطفي
يد القاهرة الطويلة
لم تغب الأطراف الدولية والإقليمية عن المشهد، فبصمة القاهرة التي ربما دخلت علاقتها مع طرابلس مرحلة اللاعودة كانت حاضرة في ترتيبات إسقاط حكومة الدبيبة، إذ دعمت تحركات رئيس البرلمان بمنح الثقة للحكومة الموازية (حكومة الشرق) برئاسة أسامة حماد الذي استقبله نظيره المصري مصطفى مدبولي في العلمين –في حدث غير مسبوق.
وهو ما دفع خارجية حكومة الوحدة الوطنية إلى إصدار بيان شديد اللهجة استنكرت فيه “استقبال الحكومة المصرية لأجسام موازية لا تحظى بالاعتراف الدولي بشكل رسمي” وحملتها تبعات هذا التصرف، قبل أن توجه مذكرة إلى السفارة المصرية بطرابلس بضرورة مغادرة دبلوماسيين يمارسون مهام استخبارية بالسفارة خلال 72 ساعة.
لعب نظام السيسي دورًا محوريًّا في بناء وتشكيل معسكر الشرق بجناحيه (حفتر–صالح) وتركزت مقاربته نحو ليبيا على تعزيز نفوذ حفتر أمنيًّا وعسكريًّا، ودعم وحماية رئاسة البرلمان من التغيير سواء عبر الانتخابات أو حتى من مخاطر خلافات البيت الداخلي ومحاولات تقويض سلطتها على يد حفتر وأبنائه أو الكتل النيابية.
تشير تحركات القاهرة منذ 2015 إلى تفضيلها الصيغة الحالية بوجود حكومة يضعفها الانقسام في طرابلس، مع هيمنة معسكر الشرق على ورقتي النفط والشرعية السياسية، وهو وضع يضمن لها أن تكون الطرف الأكثر تأثيرًا في المشهد السياسي والأمني، فالانقسامات في طرابلس فتحت الباب على مصراعيه للقاهرة لتكون لاعبًا أساسيًّا على المستوى الأمني والسياسي>
وهي اليوم تملك تأثيرًا على مجموعات داخل المجلس الأعلى للدولة والمجلس الرئاسي الذين استضافتهم القاهرة في أكثر من مناسبة، كما تجمعها علاقات بقيادات أمنية وعسكرية تتردد عليها هي الأخرى. وقد عرقلت القاهرة مرارًا إنجاز مشروع الانتخابات عبر الإصرار على إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية بشكل متوازٍ، كما عرقلت اعتماد مشروع الدستور عبر حلفائها وقدرتها على التأثير في الشرق والغرب.
الولايات المتحدة وإدارة توازنات السلطة
على مستوى الأطراف الدولية فقد أخل مبعوث واشنطن الخاص “ريتشارد نورلاند” باتزانه الدبلوماسي بعد اقتراب الحكومة من تنحية “الكبير” من منصبه، حيث خرج نورلاند على عجالة في صورة مع الكبير للتعبير عن دعمه له، وأصدرت السفارة الأمريكية بيانا قالت فيه إنَّ “المبعوث الخاص ناقش مع المحافظ التحركات الأمنية الخطيرة في محيط المصرف المركزي” وأضاف البيان على لسان نورلاند أنَّ “محاولة تغيير رئيس المصرف بالقوة سينتج عنها خسارة ليبيا قدرتها على الوصول للأسواق المالية الدولية”.
ترتكز سياسة واشنطن تجاه ليبيا على رؤية واقعية تتلخص في الحفاظ على توازن القوى الحالي لما يحمله التغيير من مخاطر كبيرة قد يجاوز تأثيرها الجغرافيا الليبية، ويدير المسؤولون الأمريكيون الملف الليبي عبر قناتين: التعاون الأمني، ومراقبة التدفقات المالية، حيث ينصب تركيز الأفريكوم على التهديدات الأمنية للمصالح الأمريكية في المنطقة.
وقد تحولت أولوياتها مؤخرًا من ملف مكافحة الإرهاب إلى ملف التهديد الروسي الصاعد كما تشير استراتيجية الدفاع الوطني واستراتيجية الأمن القومي الصادرة عام 2022، في حين يتابع المبعوث الأمريكي الخاص وفريقه ملف تدفقات عوائد النفط وإدارتها، الذي تقع في القلب منه المؤسسة الوطنية للنفط والمصرف المركزي.
تشكل عائدات النفط أكثر من 95% من عائدات الدولة الليبية، وتنفق الدولة أكثر من 62% من عائداتها على بندي المرتبات لنحو 2.8 مليون موظف ودعم المحروقات، ما يجعل كل من المؤسسة الوطنية للنفط المسؤولة عن إدارة عمليات الإنتاج والبيع وتحويل عائدات النفط لخزانة المصرف الخارجي، والمصرف المركزي المسؤول عن صرف الميزانيات العامة وإدارة القطاع المصرفي، أهم مؤسستين في تحديد اتجاه المشهد السياسي.
شكلت سلطة المصرف المركزي عامل حسم في صراعات ومفترقات طرق سابقة، وذلك عبر قطع التمويل أو عرقلته عن السلطة التنفيذية، وكانت إجراءات “خنق” الحكومات تتم بالتوازي مع التحركات الأممية بقيادة البعثة الأممية والولايات المتحدة لإطلاق حوار سياسي يتوافق على سلطة تنفيذية جديدة، فمثلًا في 2015 لعب محافظ المصرف المركزي دورًا مهمًا في تمرير اتفاق الصخيرات بعد إيقاف تمويل حكومة الإنقاذ والمؤتمر الوطني العام، وتمويل حكومة الوفاق الوطني المتمتعة بشرعية التوافق الدولي.
شاركت واشنطن منذ 2020 في تفاصيل تفاهمات الترتيبات المالية والتي تأتي على رأسها إدارة عوائد النفط وتوحيد المصارف المركزية المنقسمة في 2014، وذلك عبر ما يعرف بمجموعة العمل الاقتصادية المنبثقة عن مؤتمر برلين 1، والتي تضم ممثلين عن: الولايات المتحدة، مصر، الاتحاد الأوروبي والبعثة الأممية.
عقب هجوم حفتر على طرابلس في 4 إبريل 2019 وحصاره للمواني النفطية، أبدت واشنطن اهتمامًا متزايدًا تمثل في ارتفاع معدل الانخراط، ومشاركة شخصيات رفيعة من واشنطن مثل نائب وزير الخزانة الأمريكي “إيرك ماير” في الترتيبات الجديدة. وأشرفت واشنطن عبر مبعوثيها على إنشاء هيكل عملياتي جديد لإدارة عوائد النفط يخول المؤسسة الوطنية للنفط بتجميد تحويلات عوائد النفط في حساباتها، كما شملت الترتيبات الجديدة نظام المبادلة الذي بدأ العمل به في نوفمبر 2021 وهو نظام يتيح للمؤسسة الوطنية للنفط مبادلة النفط الخام مقابل الوقود بشكل مباشر، وهي إجراءات أضعفت من سلطة المركزي لصالح مؤسسة النفط.
وانعكس حرص واشنطن على إنفاذ واستقرار ترتيباتها الجيدة في اعتراض مبعوثها الخاص نورلاند على إقالة “مصطفى صنع الله” رئيس المؤسسة الوطنية للنفط السابق –الذي شغل منصبه منذ 2011- بعد تفاقم الخلاف بينه وبين رئيس الوزراء “عبد الحميد الدبيبة”، وصرح نورلاند حينها قائلًا إنَّ “المؤسسة كانت مستقلة سياسيًّا وذات كفاءة تقنية في عهد صنع الله” وأنَّ هذا التغيير قد يضر باستقرار المؤسسة وعمليات الإنتاج. وهو تصريح مشابه لتصريحاته الأخيرة حول إقالة الكبير.
إقالة صنع الله جاءت في سياق صفقة سياسية بين حفتر والدبيبة، أدت في النهاية إلى تمكين مرشح حفتر ومحافظ المصرف المركزي الأسبق 2006-2010 “فرحات بن قدارة” من المؤسسة، مقابل رفع الحصار عن الحقول النفطية، وقد أقلق هذا التحول الأطراف الغربية وعلى رأسها واشنطن التي تخوفت من انعكاس تمدد مجموعة الفاغنر الروسية في محيط الهلال النفطي، وتقارب حفتر مع موسكو على ملف التعاقدات النفطية.
تشير تحركات واشنطن إلى بحثها عن التحلل من الانخراط في مسارات السياسة الداخلية العبثية، مقابل تركيزها على ملف التعاون الأمني مع طرفي النزاع، وزيادة تأثيرها في ملف إدارة الموارد عبر المصرف المركزي والوطنية للنفط، والتي يمكن اعتبارها بمثابة خيوط المشهد ومفاتيحه، كما تتيح لها الظروف الحالية التي تبحث فيها الأطراف الداخلية عن الشرعية في البيئة الدولية مزيد من التأثير في المشهد العام.
تقارب تحت الرماد
خلف الأدوار الخارجية الصاخبة يكمن دور غير صاخب ونشط، ساهم في رسم ملامح المشهد السياسي الحاضر، دور أسس لتقارب بين إبراهيم الدبيبة مستشار الأمن القومي لرئيس الوزراء والعقل الأمني للحكومة، وصدام حفتر رئيس أركان القوات البرية في جيش حفتر والابن الأقوى من بين أبنائه، دور أبو ظبي.
مثلت علاقة حفتر الابن بإبراهيم الدبيبة قناة تواصل وتعاون مهمة في عدد من الملفات الحاسمة، فكانت القناة الأبرز في إنجاح مقايضة فك حصار النفط مقابل تعيين بن قدارة، واستمدت العلاقة فاعليتها من الامتيازات أو الخدمات التي قدمها الطرفان لبعضهما في مناطق نفوذهما، في حين لعبت أبو ظبي التي رعت محادثات الطرفين في 2022 وتملك علاقات قوية بهما، دورًا محوريًّا في التقريب بينهما.
وفي حين يجري التقارب والتفاهم بين الطرفين برعاية إماراتية إلى حد كبير، فإنَّ الطرفين يتحركان بعيدًا عن تأثير القاهرة –الأقرب لخالد حفتر رئيس أركان الوحدات الأمنية– التي تبدو متوجسة من هذه الشراكة، فالقاهرة التي سعت حثيثًا لاحتكار رعاية وإدارة الصفقات بين الأطراف الليبية والتي تحرص على أن تمتد يدها إلى كل مستويات المشهد السياسي والأمني والاقتصادي وأن تكون صاحبة اليد العليا أمام أنقرة والأطراف الإقليمية الأخرى، ترى في إبعادها عن تفاهمات على هذا المستوى تقويضًا لنفوذها وتأثيرها.
وراء ضجيج التحالفات والمعارك السياسية، تعمل أبو ظبي بهدوء على تأسيس ما يشبه الشراكة بين آل الدبيبة وآل حفتر، إذ يبدو أنَّها تتبنى رؤية مختلفة للمشهد عن تلك تتبناها القاهرة، وأنَّها وجدت طريق أكثر هدوءًا لتحقيق مصالحها ومصالح أصدقائها على حد سواء. وقد مثل نجاح صفقة ابن قدارة المقرب من أبو ظبي خطوة مهمة في بناء العلاقة بين حلفائها ويبدو أنَّ الخلاف بين الحكومة والكبير شكّل ركيزة أخرى لهذه الشراكة، حيث تشير المعطيات إلى توافق إبراهيم وصدام على مشروع إسقاط الكبير وتغيير مجلس إدارة المصرف، وهو ما دفع الأخير للانتقال من حالة الخلاف إلى التصعيد الحاد.
خلاصة
يتجه الصراع الحالي بين تحالف الحكومة وتحالف المصرف المركزي إلى مزيد من التصعيد، حيث يمارس كل طرف أقصى إجراءات التصعيد الإعلامي والسياسي، كما يوظف الطرفان سلطتهما القانونية وتحالفاتهما الأمنية لتضييق الخناق على الآخر، ويمكن القول إنَّ الصراع بعد أن مرَّ بفترات مد وجزر لأكثر من عام، فإنَّه قد دخل مرحلة الصفرية اليوم.
في حين تبدو الأوضاع الميدانية في صالح تحالف الدبيبة، تشير المعطيات إلى تقدم تحالف الكبير في الميدان السياسي، وقد استطاع الأخير ممارسة عمله بشكل طبيعي بعد صدور قرار إقالته من المجلس الرئاسي وذلك بعد اجتماعه في 18 أغسطس مع كافة قادة التشكيلات المسلحة من طرابلس ومناطق أخرى للتفاهم حول تهدئة وطمأنة التشكيلات المتحالفة مع الدبيبة، والتي تفيد الأخبار المسربة بتعهدها بعدم التورط في النزاع الجاري شرط أن يلتزم الجميع بحدوده.
ويشير استمرار الاتصالات والاجتماعات التي كان آخرها اجتماع “الكبير” برئيس المجلس الرئاسي “المنفي” في 19 أغسطس –وحضره عدد من قادة التشكيلات المسلحة– إلى احتواء زخم محاولات إسقاط الكبير بالقوة، ما يهدد بتفكك تحالف الحكومة أو حدوث تسويات على حسابها.
تمثل خطوة مهاجمة منصب المحافظ بشكل مباشر خطوة غير مسبوقة منذ اندلاع
الثورة الليبية وتولي الكبير منصبه في 2011، وهي تنذر بالإخلال بحالة التوازن القائمة، إذ سيمثل المنصب وعضويات مجلس الإدارة ورئاسة المصرف الخارجي ساحة لنزاع شرس ربما يؤدي إلى الإضرار بالحالة الاقتصادية للبلاد واستقرارها النسبي.
في المقابل فإنَّ السلوكيات المتهورة والسلطوية التي أبداها الكبير والتي كان آخرها فرض الضريبة على مبيعات النقد الأجنبي بالتوافق مع مجلس النواب متجاوزًا أحكام القضاء، وتمويل معسكر الرجمة>
وأخيرًا إجراء تعطيل منظومات المصارف، كل هذه الإجراءات وغيرها وضعته في مواجهة شريحة متسعة من الخصوم، كما ساهمت سياسات الكبير ومحاولاته لتعزيز شرعيته بلقاء المسؤولين الأجانب في تراجع شعبيته بشكل كبير.
ويُعدُّ الصراع الحالي تعبيرًا عن نجاح معسكر الرجمة (صالح– حفتر) وحلفائه الدوليين والإقليميين في نقل الصراع إلى داخل طرابلس والاستفادة منه في الحصول على مكاسب من الأطراف المتناحرة، وهي حالة صنعتها البعثة الأممية والأطراف الدولية والإقليمية التي صاغت الاتفاق السياسي في 2015 الذي حوَّل مجلس النواب وحفتر –ومجلس الدولة محدود الصلاحيات– إلى ثوابت في المعادلة السياسية.
______________