كيف تحوّل مستقبل الدولة الوطنية؟

سراج ضياء الدين

الفيدرالية حلّ أم تسوية؟

كَثُر الحديث في السنوات الأخيرة عن الفيدرالية كحل لمشكلات العالم العربي وأداة ضرورية لإصلاح واقع الحال المُجزّء والمفتت، في دول المشرق العربي على وجه الخصوص، وفي اليمن والسودان وليبيا على نطاق أوسع.

في عام 2005، وعلى أثر اشتعال النقاش حول الدستور العراقي، برزت فكرة الفيدرالية التي تبنّتها الأقلية الكردية بوجه خاص، بجميع هياكلها الجغرافية، والإثنية، ما سبب نزاعاً دستورياً بين الأغلبية العربية، بشقّيها السنّي والشيعي، وبين الأقليات الكردية والتركمانية؛

وعن ذلك كتب الباحث الفلسطيني عارف حجاج، الذي عمل أستاذاً للّغة العربية في وزارة الخارجية الألمانية، أن هناك إجماعاً شبه كامل في العالم العربي، على أن الفيدرالية مرادفة للانشقاق، وتجزئة الدولة، والذي ظهر جليّاً في النقاشات حول الدستور العراقي، ولكن من الممكن أن يشكل هذا النموذج بالنسبة لجميع الدول العربية أداةً مهمةً للقيام بإصلاحات“.

لكن الخيار الفيدرالي في المنطقة ليس جديداً، وطُرح كبديلٍ عن النظام الطائفي في لبنان، وكان موضوع نقاش بين السياسيين المسيحيين، والأحزاب المسيحية بشكل رئيسي قبل الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) وخلالها، فقد عرض الرئيس كميل شمعون (1952-1958) خطةً مفصّلةً للبنان الفيدرالي، كما قدّمت الجبهة اللبنانية، التي تمثّل تطلعات الموارنة بشكل رئيسي، مشروعاً فيدرالياً خلال الحوار الوطني اللبناني في لوزان 1984، وراودت فكرة الفيدرالية الرئيس المنتخب بشير جميل الذي اغتيل عام 1982.

وتصاعد صوت الفدراليين الحاليين في لبنان لناحية اعتبار الفدرالية حلاً لمشكلة لبنان كدولة، ويؤكدون وفقاً لموقع لبنان الفيدراليعلى السيادة والحياد كأولوية تأسيسية وطنية، لإنقاذ لبنان من بين أمور أخرى كالعنف السياسي، والاستقطاب الطائفي، والفساد، والتدخل الخارجي، والسلاح غير الشرعي، ويقترح البعض الآخر منهم دستوراً عرقياً جغرافياً، وفقاً لموقع جمهورية لبنان الفيدرالية، ويأخذون في ذلك سويسرا وبلجيكا مثالَين على دول تبنّت الفدرالية على أساس عرقي، والولايات المتحدة على أساس جغرافي، ويبقى المثال العربي الوحيد هو الإمارات العربية المتحدة، مع ملاحظة غياب القراءة الفعلية لديهم، للواقع اللبناني المتشابك والمختلف في كثير من تفاصيله عن الدول التي تعتمد الفيدرالية.

في سوريا، ذهب المنادون بالفدرالية، وهم مجلس سوريا الديمقراطية، والقوى الكردية بشكل أساسي، وبعض الناشطين المعارضين، إلى اعتبارها حلّاً سحرياً لكل مشكلات سوريا، فيما يعدّ كثيرون، من الموالين والمناوئين للنظام على حد سواء، أنها تكرّس حالة الانقسام، وما هي سوى مخطط خارجي استعماري تقسيمي.

يذكر الباحث السوري الدكتور عقيل سعيد محفوض، في ورقة بحثية: “ينظر السوريون، أو شريحة قد تكون كبيرةً منهم، إلى الفيدرالية كما لو أنها ’شأن الآخرين’ حيال بلدهم وجزء من ’منظور دولي’ للتعاطي مع الحدث السوري، ومن غير الواضح إلى أي حد يقبلون/ يرفضون الفكرة، ربما لانشغالهم عنها بأمور أكثر أولويةً تتمثل في تدبّر الحرب، وتدبّر سبل العيش“.

ويختم ورقته بفكرة تفاؤلية تبدو أقرب إلى الحلم، حسب معطيات الوضع الراهن: “إذا حدثت توافقات بين فواعل الحدث السوري واستعاد السوريون فكرة مجتمع، ودولة، وهوية وطنية، ومواطنة، وتحول ديمقراطي، فلربما تجاوز الحدث السوري سؤال الفيدرالية، والتجاذبات والاصطفافات حوله، لتغدو الفيدرالية مقولةً محققةً بالنسبة للمطالبين بها، ومتجاوزةً بالنسبة للمتوجسين منها!”.

هذا التوجس من الفيدرالية تطور إلى إدانة ويزيد مع ازدياد حالة التفتت غير المعلن في دول المشرق العربي؛ سوريا، لبنان، العراق، وتُنسب كما مشكلات المنطقة دائماً إلى المخططات الاستعمارية، فيقول حازم صاغية: “كلما زاد هذا الهزال المشرقي هزالاً، قويت نبرة التنديد بالتجزئة والتفرقة، التي تنسب إلى الاستعمار إياه أنه يرعاها…”،

 ويرى أن إدانة الفيدرالية استُخدمت أكثر ما استُخدمت لاحقاً في بلدان العالم الثالث، حيث يتجاور الطلب على الوحدة، وضعف مكونات تلك الوحدة على الواقع، واليوم تندفع هذه الوجهة بقوة غير معهودة أقله في المشرق العربي“.

ويرى صاغية أيضاً أن الذين يُشهّرون لا يفعلون ذلك من موقع اليعقوبية الصارمة، بل يصدرون عن دول مفتتة تعيش واقعاً من الانقسام، ومن هُزال الدولة المركزية على ما نرى في لبنان وسوريا والعراق“.

لا شك في أن الفيدرالية باتت من الحلول المطروحة بقوة للمشكلات والأزمات والانقسامات، في بعض دول العالم العربي، وهذه الانقسامات هي واقع غير معلن ضمن دول مركزية منهارة تحكمها الميليشيات.

ولكن هذا الحل قد يبدو أقرب إلى التسوية منه إلى الحل المطلق، ويمكن اعتبار أن هذه الفيدرالية المطروحة والتي تقوم على أساس جغرافي عرقي أو طائفي أو قبلي، تُنذر بتحولها إلى مشاريع دويلات متحاربة في ما بينها، نظراً إلى الدعم الخارجي الذي تتلقاه هذه المكونات من أطراف ودول متناحرة أساساً. هذا التوجس ليس قطعياً، ولكن يبقى احتمالاً يجب أن يُؤخذ بعين الاعتبار، عند طرح فكرة الفيدرالية في العالم العربي.

لا يبدو، على المدى المنظور، من حل لمشكلة الدولة العربية القائمة مع استمرار مسببات الأزمة في بنية هذه الدولة، وما استجدّ عنها عقب عام 2011 وما رافقه من ازدياد في التدخل الخارجي بين الدول المتناحرة، ومكاسب حققتها بعض الجماعات الاثنية، ويبدو أن المنطقة العربية ذاهبة إلى المزيد من الاضطرابات، خصوصاً بعد عملية 7 تشرين الأول/ أكتوبر وما تلاها من إبادة إسرائيلية، ما ينذر بتفاعل هذه النزاعات واستمرارها، لا بل ظهور نزاعات جديدة لم تكن قائمةً في السابق.

________________

مقالات مشابهة