ولفرام لاتشر

كيف فتح الصدام بين الأعداء السابقين في طرابلس أبواب التمويل بشكل غير مسبوق لعائلة حفتر؟

تبدو طرابلس اليوم وكأنها على هامش التطوير، وهي حالة غير معهودة لمدينة كانت مركزًا للصراعات الليبية حول السلطة والثروة على مدى السنوات الأربع عشرة الماضية. الآن، يبدو أنَّ مركز الفعل والمبادرة انتقل لمكان آخر، حيث يعود رجال الأعمال الليبيون والدبلوماسيون الأجانب مذهولين من شرق ليبيا، ويصفون بدهشة كيف أنَّ الطرق والجسور والمباني العامة والمشاريع السكنية الجديدة ترتفع من الأرض بسرعة مذهلة.

تزداد دهشتهم من هذا التحول المفاجئ للأحداث بعد أكثر من عقد من الزمن كانت فيه مشاريع البنية التحتية الكبيرة في حالة تجمد، ولكن إعادة الإعمار الجارية حاليًّا في المناطق التي تسيطر عليها عائلة القائد العسكري الليبي خليفة حفتر تُعتبر “غير مسبوقة”؛ حتى عند مقارنتها بمرحلة القذافي الأخيرة.

بالمقارنة، يسود الجمود في طرابلس، فالنشاط الوحيد الملاحظ في مجال البناء هو الطريق السريع الذي تشيده مجموعة شركات مصرية، في محاولة من رئيس الوزراء المتمركز في طرابلس، عبدالحميد الدبيبة، لكسب ود الحكومة المصرية، لكن حتى في هذه المحاولة لا تسير الأمور بسلاسة، حيث يشتكي المقاولون الذين يعملون في مشاريع أخرى بغرب ليبيا من صعوبة الحصول على مستحقاتهم إلا إذا كان لديهم حلفاء في الدائرة الداخلية للدبيبة، فوصول الحكومة لميزانيات التنمية صار محدودًا.

تُعدُّ هذه حالة متناقضة، فعوائد النفط الليبي تُحول عبر المؤسسة الوطنية للنفط والبنك المركزي المتعاونين رسميًّا مع حكومة الدبيبة، بدلًا من الحكومة الموازية بقيادة أسامة حماد، التي تتخذ من بنغازي مقرًا لها وتوفر واجهة مدنية لحكم عائلة حفتر

رسميًّا لم يقم البنك المركزي في طرابلس بصرف أي أموال لحكومة حماد حتى وقت كتابة هذا التقرير، لكن تمويل المشاريع الكبيرة في المناطق الواقعة تحت سيطرة حفتر يضعف هذا الادعاء.

إجابة هذا اللغز تقع في فهم صراعات القوة في طرابلس التي أعادت تشكيل التحالفات السياسية في ليبيا وساعدت عائلة حفتر في الحصول على أموال غير مسبوقة. لقد أثبت حفتر وأبناؤه براعتهم في استغلال هذه الانقسامات، بين محافظ البنك المركزي، الصديق الكبير، والدبيبة أو بشكل أكثر دقة، ابن شقيق الدبيبة إبراهيم، الذي يُنظر إليه كصاحب النفوذ الفعلي خلف الحكومة في طرابلس

تحالفات الغدر: الدبيبة وحفتر في ميزان القوة

إذا كانت السياسة الليبية نادرة الظهور في عناوين الأخبار الدولية في السنوات الأخيرة، فإنَّ هذا ليس بالضرورة دليلًا على الوضع الجيد، ففي حين اتسم العقد الأول بعد سقوط القذافي في عام 2011 بالاضطرابات والحروب الأهلية المتكررة، فإنَّ الفترة منذ عام 2022 كانت فترة جمود سياسي وصفقات محاصصة خلف الكواليس، ولم تعد السياسة مسألة عامة، بل أصبحت تُمارس من خلال التفاهمات الخفية بين عدد قليل من الأشخاص.

التوصيف الدارج للمشهد يبدو بسيطًا بشكل مخل: حيث يصور المشهد على أنَّه توجد حكومتان متنافستان وكتلتان عسكريتان، تدعمهما قوتان أجنبيتان هما تركيا وروسيا، وأنَّ الحضور العسكري لهاتين الدولتين منع العودة إلى الحرب الأهلية منذ أن هزمت قوات غرب ليبيا، بدعم من تركيا، قوات خليفة حفتر في معركة طرابلس منتصف عام 2020. 

وعقب هذا الصراع، أدت الوساطة من طرف الأمم المتحدة إلى تشكيل حكومة وحدة بقيادة الدبيبة في أوائل عام 2021. ولكن خطة الأمم المتحدة لإجراء انتخابات في وقت لاحق من ذلك العام فشلت. ما أدى إلى تحالف معارضي الدبيبة في غرب ليبيا مع حفتر لتشكيل حكومة جديدة، ولكن الدبيبة فاز في منافسة ولاءات الجماعات المسلحة في طرابلس، تاركًا الحكومة الموازية في حالة إشراف اسمي على شرق وجنوب البلاد الذي تسيطر عليه عائلة حفتر. في المقابل تعاون الدبيبة ومحافظ البنك المركزي الصديق الكبير عن كثب، حيث اعتمد كل منهما على الآخر لضمان بقائه السياسي.

لكن الانقسامات الرسمية أخفت تحتها شبكات علاقات وتحالفات بين الأطراف المتصارعة الرئيسية في ليبيا، ففي يوليو 2022، توصل إبراهيم الدبيبة وصدام حفتر إلى اتفاق لتعيين مرشح حفتر، فرحات بن قدارة كرئيس للمؤسسة الوطنية للنفط.

مقابل ذلك، رفع حفتر الحصار الجزئي على إنتاج النفط الذي سبق أنَّ فرضه للضغط على رئيس الوزراء الدبيبة للاستقالة. ومنذ ذلك الحين، عادت صادرات النفط لتغمر عائداتها البنك المركزي، ومن ثَمَّ إلى حكومة طرابلس التي دفعت الرواتب في جميع أنحاء البلاد بما فيها رواتب منتسبي قوات حفتر

لبعض الوقت، بدا أنَّ الجمود يوفر بيئة مريحة لجميع اللاعبين الرئيسيين. فقد استحوذ كل من حفتر وأعداؤه الاسميون — مجموعة القادة العسكريين الذين ضمّنوا بقاء الدبيبة — على مبالغ متزايدة من المال والنفوذ عبر توزيع المناصب. وتعامل إبراهيم الدبيبة والقادة المتحالفين معه باستمرار مع أبناء حفتر. بينما جرى تهميش معارضي الدبيبة في غرب ليبيا، وأصبحت الاشتباكات في طرابلس — التي كانت شائعة سابقًا — نادرة للغاية

ورغم ذلك، فإنَّ نهب الأموال الحكومية، الذي أثار العديد من المواجهات والتقلبات المفاجئة، استمر حتى الآن في صمت. في هذه الأثناء، تراكمت ثروات وسلطات العائلتين الحاكمتين وقادة الميليشيات المتحالفة معهما بشكل متزايد.

انتهت حالة الهدوء في صيف عام 2023 بعد تفجر الخلاف بين محافظ المصرف المركزي ورئيس الحكومة. هناك روايات متباينة حول ما دفع إلى حدوث الخلاف بين الكبير ورئيس الوزراء، حيث يؤكد الكبير ومستشاروه أنَّ الإنفاق الحكومي المرتفع للدبيبة غير قابل للاستدامة، ما دفع المركزي لتعليق التفويضات بالمدفوعات لكل شيء سوى الرواتب في أكتوبر 2023. 

نقطة الخلاف حسبما قال لي أحد مستشاري الكبير في أواخر 2023، كانت الإنفاق غير المعقول على الهيئات العامة التي يترأسها حلفاء مقربون من إبراهيم الدبيبة، مثل الإدارة التي تتعامل مع المدفوعات لعلاج المستشفيات في الخارج. وفي العلن، عبّر الكبير عن قلقه الخاص من الزيادة الكبيرة في فاتورة واردات الوقود المدعوم وما قابلها من تراجع في عائدات صادرات النفط التي تحولها المؤسسة الوطنية للنفط إلى البنك المركزي.

تُعدُّ واردات الوقود التي أشار لها الكبير مصدر رئيسي لتمويل عائلة حفتر.

تمتلك ليبيا طاقة تكرير محدودة وتستورد معظم وقودها. وتشتري المؤسسة الوطنية للنفط الوقود بأسعار السوق العالمية، لكن شركاتها التابعة تبيعه للمستهلكين الليبيين بأسعار هي الأدنى في العالم: لتر البنزين يكلف حوالي ثلاثة سنتات بالسعر الرسمي، وبالتالي يوفر فرق الأسعار فرصًا كبيرة للربح غير المشروع. كانت عمليات تهريب الوقود إلى البلدان المجاورة شائعة حتى في عصر القذافي، لكن منذ عام 2011، حلّت الشبكات الضخمة محل المهربين الصغار.

***

ولفرام لاتشر – زميل أول في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية ومؤلف كتاب “تفتت ليبيا”

______________

مقالات مشابهة