منصور بوشناف

لا يتوقف الليبيون عن لعن نخبهم الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية واتهامها بالتقصير والانعزال عن الناس وهمومهم، بل وحتى بالخيانة والانتهازية.

وقد يكون بعض تلك التهم صحيحا وينطبق على البعض، ولكن تعميمه على الجميع يبدو ظالما وغير موضوعي، والأكثر أهمية بالنسبة لي أننا لم ندرس تاريخ هذه النخب وظروف وطبيعة تشكلها في العصر الحديث ولماذا هي هكذا؟

لقد ظل تاريخ هذه النخب مجهولا، وغالبه مشوها لأن سارده كان الحاكم بإمكانات إعلامية هائلة، وبقيم اجتماعية تحرم الاختلاف والتنوع وتأمر بطاعة ولي الأمر.

في هامش صغير وضيق بدأ أفراد من هذه النخب في سرد سيرهم وتجاربهم عبر إصدار المذكرات والسير المكتوبة أو عبر بعض السلاسل التلفزيونية مثل سلسلة «الشاهد» على «قناة ليبيا الأحرارۜ و«يحكى أن» على قناة «الوسط» و«سيرة» على «قناة 218»، تلك بداية مهمة لفهم والتعرف على نماذج من تجارب هذه النخب.

عبر هذه السير المكتوبة وعبر هذه الشهادات المتلفزة تقدم النخب الليبية شهاداتها عن مرحلة مهمة من التاريخ الليبي الحديث وهي بالتحديد مرحلة ما بعد الاستعمار وتأسيس الدولة الوطنية حتى سقوط النظام عام 2011م.

هذه الشهادات والسير التي أرّخت في غالبها لحركة النخب الليبية بمختلف مشاربها فترة الحكم الملكي ثم فترة القذافي تعتبر وإلى حد الآن أول كتابة أو رواية لتاريخ تلك الفترة، أعني فترة ما بعد الاستقلال.

فلم يكتب الليبيون إلا ما ندر تاريخ المملكة ولا الجماهيرية من زاوية نظر غير حكومية طوال تلك الفترة.

النخب الليبية «عبر تجارب أفراد» كانت تسرد تاريخا من القمع والتهميش الذي عانته طوال عقود الدولة الوطنية الماضية، حتى إننا لا نتردد في القول إن تاريخ النخبة الليبية كان تاريخا للسجن والمنفى، فلم تكن قادرة على افتكاك فرصة للمساهمة في إدارة الدولة الوطنية، ولم تمنح الفرصة حتى لتنظيم نفسها في شكل سياسي أو حتى ثقافي مستقل يمكنها من التأثير أو نشر الوعي بين الناس.

محنة «بشير السعداوي» كانت بداية مأساة تلك النخب التي لا زالت متواصلة حتى يومنا هذا، أعني المنفى والسجن حتى وصلت إلى القتل شنقا أو خنقا حتى الموت.

لذا لن تجد في هذه السير إلا المطاردة والمنفى والسجن وحبل المشنقة.

إنها امتداد لنضال الليبيين ضد الترك ثم الطليان، أعني المنفى والمعتقل والشنق والخنق، مما جعل هذه النخب لا تتجاوز مرحلة بدايات الوعي النظري دون الوصول إلى مرحلة التشكل والتنظيم.

هذه النخب التي ظلت تعاني غياب التجربة العملية والمشروع النهضوي الحقيقي ظلت ونتيجة لكل تلك الظروف القاسية تعيش طفولة التجربة والوعي، بل ظلت غير قادرة عن التعبير حتى عن وجودها في الواقع، وظلت أطيافا تخنقها تجارب المنافي والسجون والمشانق.

في هذه السير والشهادات لبعض أفراد هذه النخب نرى الخنق المبكر أو ما يمكن أن نسميه بالوأد، فغالبية هؤلاء الضحايا كانوا صغارا في العمر والتجربة والوعي، وغالبهم جاؤوا من خلفيات اجتماعية بسيطة وأمية ولم تتح لهم فرصة التعلم واكتساب الخبرة والوعي بالممارسة السياسية.

عبر هذه السير المكتوبة أو المتلفزة ما زال هؤلاء الضحايا يعانون آثار المطاردة والسجون ومخاوف ما بعد السجن، فالسيوف نفسها ما زالت فوق رؤوسهم والتهم نفسها ما زالت قائمة، تهم الخيانة والزندقة والتكفير والعلمانية والشيوعيةإلخ من التهم، أعني أن كل السير يحاول أصحابها إعلان البراءة ونكران «حق التفكير والاعتقاد والتعبير عن كل ذلك».

هذه السير وعلى الرغم من كل مخاوف أصحابها من «التابوهات السياسية والدينية والاجتماعية» أعتبرها مدخلا مهما لدراسة النخب الليبية وتاريخ وظروف تشكلها ومعالجة عيوبها من أجل نخب أكثر تحررا وانفتاحا، وأكثر قدرة على نشر قيم العدالة والنهضة.

_____________

مقالات مشابهة

2 CommentsLeave a comment

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *