المهدي هندي
“لقد مات الكابتن“، لعلها الأقدار ولحظة الانقضاء المحتومة، فلكل أجل موعد. في تلك اللحظة التي انتقلت فيها روح الكابتن إلى بارئها أثناء رحلة تابعة لشركة خطوط طيران “سكاي فيجين” المصرية، المتوجهة من القاهرة إلى الطائف، واجه طاقم الطائرة تحدياً مصيرياً. بمنتهى الاحترافية، استجاب الطاقم لهذا التغيير الدرامي بإبلاغ الركاب بما حدث وتغيير مسار الرحلة نحو مطار جدة.
في سماء تعلو على ارتفاعات شاهقة تُقاس بمئات الآلاف من الأقدام، تحلق طائرة تحمل على متنها مئات الأرواح التي تعقد آمالها وثقتها بكاملها على طاقم القيادة. حتى في حال فقدان كابتن، يستمر الركاب في شعورهم بالأمان والاطمئنان بفضل الفريق المصاحب الذي يملك الكفاءة لاستكمال الرحلة. والآن، لنعكس هذه الصورة على دولة بحجم وتاريخ ليبيا ومؤسساتها، التي تتسع أرضها ثلاثة أضعاف مساحة دول كبرى قادت العالم من قبل مثل فرنسا وبريطانيا، وتسبق في عمرها دولاً في المنطقة بربع قرن.
في هذا السياق، يظهر السؤال المحوري:
هل كان نائب الكابتن في ليبيا، الذي شغل منصبه لأكثر من أربعة عقود، مستعدًا دائماً لتولي مهام القيادة؟
وهل كان قادرًا على نقل الطائرة إلى وجهة بديلة بكل هدوء وأمان، ريثما تستقر الأمور، ومن ثم مواصلة الرحلة حسب الخطة الموضوعة أو تعديلها إذا لزم الأمر.
إن تغيير وجهة وإدارة الدولة، يستند إلى وجود مؤسسات قوية وإدارة فعّالة، تماماً كما في قيادة الطائرات. ولا ينكر أحد أن تدخل دول الناتو في الانتفاضة الليبية عام 2011 تدخل ذو تبعات جسيمة، بلا شك.
وكما أن الطقس العاصف والضبابية في الأجواء عوامل متوقعة تؤثر على حركة الطيران، كذلك العوامل الخارجية التي تؤثر على الدولة؛ مع ذلك، تنجح الغالبية العظمى من الطائرات في الوصول إلى أرض السلامة. لكن، في دولة شيدت على شخصية وهم “القائد الملهم” ويتم تفصيلها على مقاسه، عند غيابه يبدو كما لو أن الدولة بأسرها قد تلاشت وضلت طريقها نحو الهبوط الآمن.
وهنا ربما لا نجد إجابة لمأزقنا بل نجد نطرح السؤال بشكل صحيح، هل كان هناك مساعد كابتن من الأساس، مستعد لتولي القيادة في قمرة القيادة بدولتنا؟ للأسف، لم يكن هناك مساعد مؤهل في خيمتنا السياسية، على الرغم من وجود العديد من الرجال. وربما ما زاد الأمور تعقيداً، زخم قمرة القيادة نفسها بالخلل والصراع بين الرفاق والأخوة، فأصبحنا في قمرة القيادة وفرة من المساعدين ولكن دون جدوى أو فاعلية.
يستحضرني هنا قول الشاعر نزار قباني “خلاصة القضية توجز في عبارة، لقد لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية“. وإذا أسقطنا هذا المثل على الدولة، نرى أن الديمقراطية مظهر للحضارة، بينما تجسد المؤسسات الروح.
ما أريد قوله، أن الدولة الديمقراطية تحتاج إلى مؤسسات راسخة توفر الأمن والاستقرار لتكون الدولة ديمقراطية حقيقية. لكن كيف يمكننا تحقيق الديمقراطية والتحول الديمقراطي عندما تعاني كل مؤسسة من الخلل، والانقسام يسود الجيش والداخلية وحتى البنك المركزي؟ وحتى إن أجريت انتخابات في مثل هذه الظروف، من يضمن قبول نتائجها؟
للأسف، ما زالت “الروح جاهلية” تلوح في الأفق، فنحن نفتقر إلى ثقافة سياسية متجذرة، إذ لم نعهدها لسنوات طويلة. و لم تكن الأجواء مواتية لرحلة طائرتنا، وللأسف، فخرج علينا الكثير من الركاب ممن يدعون الخبرة في الطيران والملاحة وحتى علوم الفضاء، مما زاد الوضع إرباكاً وأدى إلى تعقيدات إضافية.
للأسف، انطلقت الطائرة في طقس شديد التقلب وباستعجال، في ظروف كانت خارجة عن إرادتنا، حيث ساهمت عوامل متعددة في تدهورها السريع وتعجيل تخبطها، بما فيها قائدها السابق الذي كان له دور كبير لإيصال الجميع لهذا الإرباك.
ربما استطاع مساعد الكابتن في تلك الرحلة المتجهة من مصر الهبوط الاضطراري وتغيير الوجهة نظراً لوفاة الكابتن وبأقل التكاليف، ولكننا في رحلتنا لم نستطع ذلك لحد الساعة ودفعنا باهظ الأثمان، ولكن وسط زحمة إلا في الحين الذي نجح فيه مساعد الكابتن على رحلة متجهة من مصر في الهبوط الاضطراري وتغيير الوجهة بعد وفاة الكابتن، وبأقل التكاليف، نجد أن رحلتنا، للأسف، ما زالت تكافح وتدفع أثماناً باهظة دون تحقيق الهبوط المنشود حتى اللحظة.
ورغم زحام الأحداث المؤلمة والغيوم الكثيفة التي تغطي سماءنا، إلا أنه يوجد بصيص أمل، فلعل سيدة من ركاب طائرتنا تلد مولوداً جديداً، ويتعلم ويكتسب ثقافة الديمقراطية والسياسة، ليكون يوماً ما هو الربان أو المساعد القادر على قيادة الرحلة. فما زال هناك طريق طويل ينتظرنا.
_____________