ابراهيم موسى قرادة
خريف المشير حفتر، في سنة الوداع وعام المراجعة، بين مراسم التوديع وإعادة الوديعة.
ثمانون عامًا يبلغها العسكري حفتر هذا السنة، وهي الفرق بين سنتنا هذه 2023، وسنة ميلاده 1943.
عشنا معه فيها عشريتها الأخيرة في حروب متواصلة تفصلها استراحات تهديد بحروب؛ كأن حصاد تولي العسكر لمقاليد الحكم في كل بلد وعبر التاريخ لم يلقن بسطاء الناس حصرم العسكريتاريا المرير، ولا انتهازي الذكاء علقمها المهين، لا خائني الديمقراطية غباء موالاتها، ولا طامحي العسكر أنفسهم فجاعة خواتيمها.
ولعل بيت زهير بن ابي سلمى، القائل:
<سَئِمتُ تَكاليفَ الحَياةِ، وَمَن يَعِش .. ثَمانينَ حَولاً، لا أَبا لَكَ يَسأَمِ>
يطرق عتيّ وجدان حفتر، عقلًا وضميرًا، على بوابة المآلات، ليتحور بيت القصيد تصرفًا إلى:
<سَئِمت “الحياةُ تَكاليفَها“، وَمَن يَعِشها.. ثَمانينَ حَولاً، لا “محالة يُسأمُ“>
80 عامًا في عمر كل البشر عليها أضعاف ما لها، تقفل فيها السجلات وتجرد فيها صافي السيئات مخصومة من الحسنات في راحة الضمير أو عذباته، وفي ملاقاة قيامة بكتاب المصير.
وفيما يخص حفتر فهي فترة طي وثَنْي وليس لَيّ وكيّ “الدبش/العفش” في دولاب (خزانة) العمر العتي بادراجه ورفوفه السياسية والقانونية والصحية، وما يحدده المعطى الخارجي عنه (الأسرى، والجهوي، والوطني، والإقليمي، والدولي)، أضخم بكثير من رغبة القدرات وقدرة الرغبات.
تتضايق الفسحة أمام المشير لترتيب خروجه السياسي الآمن وتقاعده المطمئن ورحيله المسالم، لينظم تراتبية بيته السياسي الأصغر بين ابنائه على النهج الأموي مع هاحس المسار العباسي بين الاخوة المتنافسين، وبالتحديد بين ابنائه “العميدين العسكريين” صدام وخالد و“المدني” الصديق، ومن سيرث صولجان مملكة حفتر الغضة المقامة على جرف مختل– ذلك يذكر ويكرر تقاسم أبناء القذافي للأدوار وطموحات التوريث غير المستورة، ونهاياتها المأساوية.
وهذا يتطلب تقييم ولاء وإخلاص بعض المؤلفة قلوبهم من أعيان القبائل ومماليكها وانكشاريتها، ورضا الخارج القريب والأبعد معًا.
وذلك ليس سهلًا بتاتًا، وبالذات بعد تعثر الصفقة القاصرة مع “باشاغا–عقيلة–جويلي…“، بموازاة محاصرة الأثر الروسي الفاغنري، تأقلم التوجه الفرنسي، وانكماش التمويل الإماراتي، وتوجس التدخل المصري– والذي يعاني ترنح اخلي اقتصادي شديد، ومنقسم بين خيارات التصعيد نحو الخارج أو الانكفاء للداخل، ضمن توازنات معقدة تقييدها أحابيل السياسة الدولية وتكلفة حسابات الفلوس، تتجه نحو توجه ومرحلة تلائم قادم العالم بصراعاته الامنية وتنافساته الاقتصادية وتقلبات الايديولوجية وتبدلات قياداته، وبالتالي مخرجاته السياسية.
وضع حفتر الثمانيّني (80) الراهن، هو نتاج لانكسار مراهنة ومشروع إقليمي/دولي جامح، اشتركت فيه فرنسا وروسيا ومصر والإمارات، وبدرجة ما امريكا (ترامب/بلتون) والسعودية والأردن– لتمكين حفتر من حكم ليبيا، والذي تهاوى منشطرًا أمام المقاومة البطولية على أسوار قلعة طرابلس المحروسة، التي أقنعت دول عديدة بجدارة دعمها للمقاومين، وبالأخص تركيا وبمساندة من إيطاليا والجزائر وبريطانيا، فلحقتهم امريكا.
مغامرة فيها وبها تشظى إطار وزجاج الصورة المارشالية المطرزة بنياشين لامعة، اطفئتها شمس الحقيقة.
هذا الانكسار ليس كسرًا فقط لهالة وهيبة المشير حفتر– رتبة المشير أعلى واندر رتبة عسكرية في كل العالم وعبر التاريخ– بل كذلك في تقليص إمكانيات وقدرات العمل لديه، بجانب الشرخ المعنوي والالهامي، ومنه خيبة مناصريه، وباهظة التكلفة الوطنية والجهوية.
لكن هذا لا يعني تلاشي دور حفتر في المعادلة الليبية، لتنامي احتكاره السلطة في مناطق سيطرته الجغرافية، بقبضة عسكرية أمنية وإعلامية جازمة وحازمة وصارمة.
وهي قبضة لن يرخيها في المدى القريب مع ثبات المعطيات إلا دقات مرور الزمن، بارتعاش الجسد، وتنافر ابنائه، او تقلب قواعد اللعبة الدولية، وبالذات مع تفعيل استراتيجية الكابتن الأمريكي، وبالتالي تكيف تكتيكات باقي اللاعبين.
وهكذا، إذا كانت سنة 1943 هي سنة انتصار البريطانيين وهزيمة الايطاليين وانتهاء حقبة الاحتلال الايطالي وبدء فترة الإدارة البريطانية في برقة ثم طرابلس– فزان كانت الادارة الفرنسية؛
فأن سنة 2023، بما خصبته فيها سنة 2022 وما قبلها، هي سنة حبلى بحمل عسير ومخاض متعسر وطلق معسور، سيكون جنين وليدها غامض ومجهول، والمعلوم منه إنه مولود مزعج.
النمط الحفتري المعهود، المندفع والموصوف بالتفكير باستخدام القوة كخيار أول قد لا يكون مجديًا الآن، لأن مقابله الوطني المضاد في هذه المرحلة رأس حربته السيد الدبيبة، الذي هو كذلك بالاضافة إلى إنه مناور جَرِئ وشعبي تواصلي فهو كذلك مقاتل؛ وهذا ما خبره حفتر، وعرف أنه يختلف عن غيره.
وأيضا، بجانب واقع اضطراب مساحات الجيوبولتيك، وحسابات الاقتصاد السياسي، الإقليمية والعالمية.
في كل الأحوال، فسنة 2023 هي سنة كتابة الوصية الوداع السياسي للمشير حفتر، وحامل الوصية المودعة لديه، يملك كذلك ملفات قانونية وخرائط سياسية أخرى في ارشيفه وجعبته.
وبالتالي، فـثمانينية حفتر الطويلة التاريخ وقصيرة المتبقي البشري في محل إختبار، وستوضح الأيام هل تخلص حفتر من الحفر الدموي وتعلم الردم السياسي للتعجيل بالتئام جرح الوطن الدامي، وتدشين سلامه الشخصي.
وختامًا، ومن منطلق الحرص الوطني، ومن زاوية الاختلاف السياسي، وبعد انكشاف الادعاءات وافتضاح المماطلات في كل مسرح السياسة الليبية؛ وبالمعنى السياسي لمصطلح السياسة، فمسألة المراجعة الوطنية، وقرار الوداع السياسي الحفتري إما تدارك أو تفويت بين خاتمة سياسية إرادية تتقلص، أو مقدمات شلل سياسي تتزايد نحو كُساح.
__________
المصدر: صفحة الكاتب على الفيسبوك