عماد المدولي
ما تلبث الاشتباكات المسلحة أن تهدأ في العاصمة الليبية طرابلس حتى تندلع من جديد ولأسباب مختلفة.. لزيادة\ النفوذ تارة أو للقضاء على المنافسة بين المليشيات تارة أخرى.. الجديد في الاشتباكات الأخيرة أنه يشوبها بعض من التوجه والاصطفاف السياسي بين المتقاتلين.
بعيدا عن الغوص في تركيبة هذه المليشيات وانتماءاتها المتغيرة دوما، فإن الخلاف الدائر اليوم بين حكومة الوحدة برئاسة عبد الحميد الدبيبة والتي أنتجها حوار واتفاق جنيف العام الماضي وبين الحكومة المكلفة من البرلمان برئاسة فتحي باشاغا، خلاف كان من المفترض أن يظل سياسيا لكنه كعادة الأزمات في ليبيا تحول إلى صدام مسلح..
لن أتحدث هنا عن الشرعية والمبررات التي يسوقها الطرفان، ولا عن كون الطرف المهاجم اليوم هو الفريق الخاسر لحساب الدبيبة في اتفاق جنيف “عقيلة، جويلي، باشاغا“، بل سأركز عن الخيارات الضيقة للمستقبل السياسي الذي سُجن “الليبيون” بين أضلاعه..
المستفيد فقط من لا يرى أن حكومة الدبيبة قد غاصت حتى أذنيها في الفساد، وأن دائرة الأموال والاستفادة المادية أصبحت ضيقة إلى أبعد حد، أو أنه لا يعي أنها فشلت في ملفات عدة حتى وإن كانت هناك حالة من عدم الاستقرار ومنع الميزانية عنها، كذلك الساذج فقط من لا يعتقد أن باشاغا جاء لتحقيق طموحه بعد فشله في جنيف ويقينه بضعف حظوظه في حال إجراء أي انتخابات. ولن أكرر الاتهامات حول وجود اتفاقات بين الأخير وخليفة حفتر لأن الكل وضع يده في يده ذلك الجنرال –رغم رفضي له– للضمان الاستمرار أو الحصول على السلطة بمن فيهم الدبيبة نفسه.
أيضا من الظلم إلصاق تهمة الفساد فقط بحكومة الدبيبة، فهناك شبهات فساد لوزراء في حكومة باشاغا إضافة إلى ترضيات وتعيينات لأقرباء النواب، سواء كوزراء أو وكلاء وزارة وحتى سفراء، وهو أمر بات متعارفا عليه للأسف بين كل الحكومات السابقة.
يتساءل البعض عما سيحدث في حال استمر الدبيبة في الحكم وعن الأوضاع إذا استلم باشاغا، غير أن السؤال الأهم هنا بعد الصدام المسلح يكمن في الكيفية وليس في الاحتمالية.. بمعنى كيف سيستمر الدبيبة وكيف سيستلم باشاغا؟
فكما نعرف من يفرض الأمر بالقوة سيضع شروطه سواء من حافظ على هذه السلطة أو من سيطر عليها.. وتاريخيا وجود شخص في أعلى الهرم فرض وجوده بالقوة أمر ليس في صالح المواطنين، وهو للأسف أمر يبدو أننا في طريقنا إليه.
يعتقد البعض أن استمرار الدبيبة في السلطة سيجعل من فرضية الوصول إلى الانتخابات هي الأقرب، عكس إذا ما دخل باشاغا واستلم زمام الأمور الآن، وهو أمر لا يجد حرجا في قوله، فدائما ما يتحدث هو ومستشاروه عن أن إجراء الانتخابات يحتاج إلى عامين أو أكثر.
أيضا لا يمكن الاعتماد على فرضية وجود الدبيبة يضمن الانتخابات، خصوصا مع انخفاض شعبيته وتدهور الأوضاع الاقتصادية والخدمية في فترته.. الخوف من عدم دخول باشاغا وانتزاع السلطة من الدبيبة وحاشيته سيجعله يبقى في السلطة طويلا.. والخشية أيضا من أن دخول باشاغا عنوة وتمكنه من الكرسي سيؤدي إلى التصاقه به زمنا ليس بالقصير.. وهذا هو الوضع الذي حصروا فيه المواطن كما أسلفت..!
الوضع ذكرني بكلمات السياسي الأمريكي “رالف نادر” عندما قال ساخرا عند احتدام المنافسة بين جورج بوش الابن وآل جور في انتخابات الرئاسة الأمريكية عام 2000: “عندما تختار بين شياطين فإنك تحصل على شيطان“.
بالفعل.. هذا ما سيحصل عليه الليبيون.. مجرد شيطان آخر في ظل محدودية الخيارات أمامهم.. فساد ونهب وهوس بالسلطة لا شيء آخر..
برلمان متمترس في السلطة منذ أكثر من ثماني سنوات، مستمتعا بالمزايا وجوازات سفر الدبلوماسية لأعضائه، وفي عهده لم يرَ البلد إلا الحروب والتهجير.
والمجلس الأعلى للدولة مرت عليه 10 سنوات لا يفكر أعضاؤه مطلقا في المغادرة وخسارة امتيازاتهم، ومجلس رئاسي باهت لا هم له إلا المشاركات في المؤتمرات الدولية وتصوير رئيسه بنظرات ثاقبة.. مجلس ينطبق عليه المثل الشهير” لا يحذف ولا يجمع الحصى“.. وغير بعيد جنرال متعطش للدماء يجلس خلف أسوار حصنه في “الرجمة” ينتظر اللحظة المناسبة للانقضاض على الجميع.. وأخيرا حكومة فاسدة وأخرى جنونها بالسلطة لا يبعث على الارتياح..
مشهد سياسي بائس لبلد كان تواقا للحرية والديمقراطية..
من سيبقى في السلطة بعد كل ما حدث سواء حافظ عليها أو انتزعها سيكون في نظر الكثيرين مجرد حكومة ملطخة بالدماء.. وليتذكر الجميع أن أكثر ما يخشاه قادة المليشيات والطامحون للسلطة هو حراك الشارع.. الشارع الذي يتودد إليه الكل خوفا لا حبا، بات هو الملجأ الوحيد والأخير للخروج من السجن الذي وضعونا فيه.. حراك يطالب الجميع بالمغادرة وإجراء انتخابات تنهي كل هذه الأجسام السياسية البائسة..
ربما العودة إلى دستور المملكة عام 1951 بأقاليمه التاريخية الثلاثة لحل مشكلة النزاع والاختلاف في الدوائر الانتخابية.. أعلم أن الثمن ربما يكون باهظا وأعلم أن تنفيذها لن يكون سهلا.. لكنني على يقين بأنها ستكون أقل ثمنا من خضوعنا لهذه الثلة الفاسدة.
_______________