أسامة الرياني

ساعدوا بعضكم! وما تكونوش أنانيين!

هكذا قالت المُعلمة لابنتي وزميلاتها في قاعة الامتحان، كان الأمر مُربكا للمنظومة الأخلاقية للطفلة. فالغش حرام، والأنانية صفة قبيحة، والمُعلمة نموذج للأخلاق. فكيف ضُربت كل هذه العناصر في خلاط حداثوي لينتج هذا المزيج الذي سبب عُسر فهم للبُنيّات.

سمعتُ معلما يحكي عن تعذيبه للتلاميذ في المدرسة، وكان يحكي باستمتاع غريب، كان منتشيا بصوت صراغ الأطفال، وبنظرة الرعب في عيونهم. هذا المعلم كنز حقيقي لكل طبيب نفسي، فهو يعجّ بأصناف الأمراض النفسة والعُقد.

العملية التعليمية في بلادنا للأسف ـ في أحيان كثيرة ـ تؤدي دورا مغاييرا للمطلوب منها، فهي ترسخ أفكارا، ومشاعر مؤذية جدا على المدى الطويل، وهذا البناء التراكمي للأزمات النفسية قد يكون عاملا أساسيا في صنع أجيال يؤمنون بالعنف كحل نهائي لكل مشاكل البشرية.

إن مشكلة التعليم في بلادنا هي أم المشاكل ـ في نظري ـ ولستُ أعرف حقيقة هل يشعر المسؤولون في بلادنا بفداحة المأساة في قطاع التعليم؟ أم أنهم أَلِفوا الكارثة فصارت في نظرهم أمرا عاديا.

تأمّل المناهج الذي يدرسها أبناؤنا، وانظر إلى المباني التي يدرسون فيها، ثم تأمّل المستوى العلمي والأخلاقي، لبعض المعلمين. فإنك ستشفق على الجيل حتما.

وأقول هُنا بعضالمعلمين، لأنني أعرف قطعا أنه ثمة معلمون أكفاء، يعرفون معني أن يكونوا صُنّاعا للجيل، ومشاعل للمعرفة.

ومسألة ضعف التعليم ليست مجرد تخمين، ولا ضرب ودع، فلا نجد جامعة ليبية واحدة ضمن أفضل مائة جامعة حسب (Webometrics Ranking of World Universities) ولا ضمن المائة الأولى في أفريقيا، وحتى إذا ضيقنا مجال البحث، فإن بلادنا خارج تقييم المائة الأوائل في الجامعات العربية.

هل يهتم المسؤولون في بلادنا بهذه المؤشرات؟

على أية حال لن تكون هذه المؤشرات غريبة في بلادنا التي مازالت بعض مدارسها ـ في الجنوب تحديدا ـ لا سقف لها غير الصفيح، ولا مقاعد لتلاميذها الذين يجلسون على الأرض، أو ييفترشون الأرض، كما يحلو للصحفيين التعبير، أو يلصقون روانفهم بالجبوب من باب التحذلق.

إن ترى بلادا نفطية كبلادنا، وترى فيها مدارس بائسة كتلك، إنه لأمر يدفعك للعن المسؤولين في هذه البلاد منذ خمسين عاما. إنهم مسؤولون جديرون بكل هجاءات مظفر النواب، وأحمد مطر، وعبد الجليل سيف النصر.

أعرف أن بلادنا عاشت عقودا بائسة رأى فيها الديكتاتور أن المكان المناسب للتلاميذ هو ساحات المعارك في تشاد وأوغندا وبوركينا فاسو أيام كان اسمها فولتا العليا. ولبعضهم اختير معتقل أبوسليم الرهيب.

يعرف الليبيون العبث بنظامهم التعليمي طوال سنوات الطاغوت، فإلغاء تعلم اللغات الأجنبية، ثم التراجع عن ذلك، وشكل الثانويات بين التخصصية والأدبية والعلمية، وبين السنوات الأربع والثلاث، وتحويل المدارس لثكنات عسكرية، كل ذلك العبث ألقى ـ لا شك ـ بظلاله على أجيال متعددة.

الحديث عن ذلك العبث يحتاج مقالات مطولة، لكننا اليوم نبعد عن تلك الحقبة عشر سنوات ثورية، وما زال الفشل ذريعا، ومازال كرسي الـ14.5 هدفا مُغريا لكثير من التلاميذ، أكثر من كرسي الدراسة.

يروقني أن ألبس جُبة الفيلسوف الآن، وأطرح حلولا ومعالجات لمأساة التعليم، فأبدوا في نظر القارئ الكريم ذكيا ألمعيا، أو متعالما مدعيّا، حسب زاوية نظر القارئ، لكنني لن أفعل ذلك لحسن الحظ، وسأعفيكم من عبقرياتي، لأن معرفة الحل غير معقّدة في الواقع.

إن النهضة التعليمية التي حصلت في الإمارات وقطر وقبلهما ماليزيا وفنلندا، ليست مستحيلة في بلادنا، لو دُرست تلك التجارب بعناية، لاستطعنا أن نكيفها لنستغلها في بلادنا، وأنا هُنا لا أتحدث عن استيراد مناهج من سنغافورة كما حدث سابقا، بل أتحدث عن استيراد تجربة كاملة، ولعل التجربة الفنلندية هي الأنسب، إذ وُضعت على أسس واضحة، وقد استلهمها كل من جاء بعدها في ركب تطور التعليم، لا سيما الولايات المتحدة التي حاولت ـ خلال إدارة أوباما ـ تطوير نظامها التعليمي، فابتكرت استراتيجية تعليمية سمتها السباق نحو القمةولكنها فشلت فشلا ذريعا، فلجأت الولايات المتحدة إلى فنلندا، لتستفيد من تجربتها الرائدة.

مهندس هذه النهضة هو وزير التعليم الفنلندي حينها، الدكتور (باسي سالبيرغ) الذي ألف كتابا ممتعا حول تلك التجربة سماه (الدروس الفنلندية)، آمل أن يطلع عليه المسؤولون عن التعليم في بلادنا، وللمسؤولين الذين لا يحبون القراءة ـ وأظن أكثرهم كذلك ـ فثمة محاضرة ألقاها الدكتور سالبيرغ في جامعة هارفرد يلخص فيها الكتاب تلخيصا مُخلا، وهي موجودة على منصة يوتيوب.

من أهم ركائز تلك التجربة؛ صناعة أطفال سعداء، يقول سالبيرغ عندنا في فنلندا طيور غاضبة وأطفال سعداء، في إشارة للعبة الفنلندية الشهيرة (Angry Birds)

رأى الخبراء أن سعادة الطفل هي ما يجعله يقبل المعلومات الجديدة ويفهمهما بشكل جيد، لاحظ عزيزي القارئ أنهم يتكلمون عن السعادة التي ضدها الحزن، ولا أحد يخطر في باله (الفرّوج) وهو نوع متطور من الفلقة، يُستخدم في المعتقلات السياسية، ومدارس الأطفال.

الاعتداء الجسدي على الأطفال بالجلد والصفع والركل أمر طبيعي في مدارسنا، والغريب أنه ثمة تواطؤ مجتمعي حول ذلك، فالأب لا يزعجه أن يُعذب ابنه كساحرة في محاكم التفتيش، بل تجد كائنات تمدح جلاديها بفخر عجيب. أتُراها متلازمة ستوكهولم؟ لستُ أدري!

من أهم ركائز نهضة التعليم الفنلندي، تعزيز التفكير النقدي، لابد أن يتعلم الطفل كيف يناقش أستاذه.

يُناقش!! تبدو هذه الكلمة غريبة في فصولنا الدراسية التي تشبه الثكنات العسكرية والسجون، لا تجد إلا الأوامر والطاعة العمياء للأوامر، أما النقاش والاعتراض فنتركهما لخرطوم الغاز الأزرق، أو عصى الزيتون التي صارت إكسسوارا مهما للمعلم مع كراسة تحضير الدروس وكتاب المادة.

كلنا يعرف قرار وزير التعليم رقم 1736 لسنة 2017 الذي يمنع بوضوح الاعتداء على الطلاب أو ضربهم بأي صورة، ولكن رغبات المعلم السادية لن توقفها مجرد قرارات ساذجة.

ختاما أقول إن التجربة الفنلندية تستحق الدراسة، وإن الكتب التي أُلّفت حولها كثيرة ومفيدة، لعل من أهما كتاب (دَرِّس مثل فنلندا) للأمريكي تيموثي ووكر“. الذي لخص التجربة في نقاط محددة، قابلة للتطبيق في أي بلاد تؤمن بأهمية تطوير نظامها التعليمي.

لكن مادام الناس يرون الأستاذ المُساهم في الغش (يساعد في الصغار) ويرون الجلاد المريض النفسي (امتع ضبط وربط) فما ابعد فنلندا على بو عصا.

___________

مقالات مشابهة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *