يعد الحق في الغذاء أحد حقوق الإنسان الأساسية التي تم الإقرار بها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948م، فبعد حربين عالميتين شهد العالم تغيراً بنيوياً متسارعاً في اقتصاد الغذائي العالمي، رافقه قلق عالمي حول توفير الموارد الغذائية الأساسية واستقرار أسعارها وضمان استمرار الإمدادات الغذائية على المستويين الوطني والدولي، ما أدّى إلى إقامة مؤتمر الغذاء العالمي في عام 1947م.
مر مصطلح الأمن الغذائي بالعديد من التغييرات والإضافات، حتى تم التوافق على تعريف شامل في مؤتمر القمة العالمي للأغذية لعام 1996، والذي ينص على أنه: “الحالة التي يتحقق فيها الحصول المادي والاقتصادي على الغذاء الكافي والآمن والمغذي لكل الناس وفي كل الأوقات بشكل يلبي احتياجاتهم الغذائية كما يناسب أذواقهم الغذائية المختلفة بما يدعم حياة نشطة وصحية“، وقد انبثق التعريف العام للأمن الغذائي بشكل أساسي من السلوك الإنساني للأفراد المتضررين من حالة انعدام الأمن الغذائي.
في منتصف السبعينات، نشطت الحوارات العالمية حول الأمن الغذائي وقضايا المجاعات وأزمات الغذاء، ثم ظهر مصطلح الأمن الغذائي لأول مرة خلال مؤتمر الأغذية العالمي (1974)، حيث تم تسليط الضوء على أهمية الإمدادات الغذائية والتأكيد على ضرورة توافر الأغذية الأساسية واستقرار أسعارها كشروط أساسية لتحقيق الأمن الغذائي وذلك على المستويين الدولي والوطني.
تبع ذلك تحليل لحالة الأمن الغذائي قدمته منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة “فاو” في عام 1983، حيث ركز التحليل على أهمية الحصول على الغذاء عبر تحقيق التوازن بين العرض والطلب، ثم تم العمل على تطوير المفهوم ليشمل المستوى الفردي والأسري، فضلاً عن المستويين الإقليمي والوطني.
وفي عام 1986م، قدم البنك الدولي تقريراً حول الفقر والجوع تناول فيه الفرق بين انعدام الأمن الغذائي المزمن والمؤقت، حيث يرتبط الأول بتحديات طويلة الأجل كالفقر المستمر وانخفاض الدخل، بينما تتسبب الكوارث الطبيعية والنزاعات والصدمات الاقتصادية بحدوث انعدام الأمن الغذائي المؤقت. وفي منتصف التسعينات، زاد الاهتمام بتركيب الأغذية وسلامتها وتحقيق التوزان الغذائي بما يدعم حياة نشطة وصحية.
وفي عام 1994 قدم تقرير التنمية البشرية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي مفهوماً جديداً للأمن يتمحور حول الفرد، والذي عرف بالأمن الإنساني ويشتمل على سبعة أبعاد، كان الأمن الغذائي أحدها. وفي مؤتمر قمة الغذاء العالمية لعام 1996 تم تبني التعريف الحالي الأكثر شمولية الذي ركز على الحصول على الغذاء، وتوافره، واستقرار إمداده. كما تم تم تحديد مبدأ “الحق في غذاء كافٍ” في العام ذاته.
يتقاطع مفهوم الأمن الغذائي مع الاكتفاء الذاتي الغذائي، إلا أن الأخير يتضمن الاعتماد بشكل كامل على الموارد والإمكانات الذاتية للدولة في إنتاج احتياجات المجتمع من الغذاء محلياً وبشكل شامل، بينما لا يشترط إنتاج احتياجات الدولة الغذائية محلياً لتحقيق أمنها الغذائي، إذ يمكن أن تنتج جزءاً منها محلياً وتستورد الجزء الآخر من الخارج.
ويتداخل الأمن الغذائي للدولة بشكل كبير مع الاستقرار السياسي والاقتصادي لها؛ حيث إن فائض الإنتاج الزراعي لبعض المحاصيل– وخاصة الحبوب– يتم توظيفه للضغط الاقتصادي والسياسي بأشكال مختلفة منها الاحتكار، بوصفه فائضاً استراتيجياً.
مكونات الأمن الغذائي
يستند تعريف الأمن الغذائي وفقا لمؤتمر القمة العالمي للأغذية (1996) على أربعة أعمدة رئيسية كما يأتي:
توفر الغذاء:
توفر كميات كافية من الغذاء تغطي حاجات السكان وبجودة مناسبة، ولا يشترط إنتاج هذه الكميات محليا، إذ يمكن أن يتم توفيرها من خلال الإنتاج المحلي أو عبر الاستيراد أو استقبال المساعدات الغذائية.
الحصول على الغذاء-:
تمكين الأفراد من الوصول إلى كميات كافية من الموارد الغذائية التي يحتاجونها (الاستحقاقات) للحصول على أنظمة غذائية غنية.
الاستفادة من الغذاء (الاستخدام):
استخدام الغذاء لتلبية كل الاحتياجات الفسيولوجية والذي يتطلب توفير البنية التحتية الداعمة مثل أنظمة الغذاء الكافية، والمياه النظيفة، والصرف الصحي، والرعاية الصحية، للوصول إلى حالة من الرفاه الغذائي. هذا البعد يبين بوضوح أهمية المدخلات غير الغذائية في تحقيق الأمن الغذائي.
استقرار أوضاع الغذاء (الثبات)-:
استقرار الإمداد بالغذاء واستمرار تزويد السكان أو الأسر أو الأفراد بالمواد الغذائية الآمنة والكافية في كل الأوقات. وهو ما يتضمن استمرار الإمداد حتى مع الصدمات المفاجئة (مثل الأزمات الاقتصادية أو المناخية) أو الأحداث الدورية (مثل انعدام الأمن الغذائي الموسمي).
الأمن الغذائي والقضاء على الجوع
يرتبط تحقيق الأمن الغذائي بشكل مباشر بالقضاء التام على الجوع وهو الهدف الثاني من أهداف التنمية المستدامة السبعة عشرة المعتمدة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة في عام 2015. بالرغم من قطع أشواط عديدة في مكافحة الجوع وسوء التغذية خلال العقدين المنصرمين عبر زيادة الإنتاجية الزراعية حيث انخفض عدد الذين يعانون من نقص التغذية بمقدار النصف تقريباً، إلا أن الجوع الشديد وسوء التغذية ما يزالان من أهم عوائق التنمية المستدامة عالمياً.
ويقدر عدد الأشخاص الذين يعانون من نقص التغذية المزمن بـ 795 مليون إنسان منذ عام 2014. بينما بلغ عدد الأشخاص الذين يعانون من سوء التغذية 821 مليون شخص في عام 2017. تحتوي القارة الأفريقية العدد الأكبر ممن يعانون من نقص الأمن الغذائي، حيث يسكن 70% من هؤلاء أرياف أفريقيا.
بهدف متابعة وتوثيق التقدم المنجز للقضاء على الجوع وتحقيق الأمن الغذائي وتحسين التغذية على مستوى العالم وبشكل سنوي، تقوم منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة والصندوق الدولي للتنمية الزراعية وصندوق الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) وبرنامج الأغذية العالمي ومنظمة الصحة العالمية بإصدار تقرير حالة الأمن الغذائي والتغذية وهو منشور سنوي رئيسي يستهدف جمهوراً واسعاً يشمل صانعي السياسات والمنظمات الدولية والمؤسسات الأكاديمية والجمهور العام.
عوامل تحقيق الأمن الغذائي
يعد تحقيق الأمن الغذائي تحدياً رئيسياً للدول النامية والمتقدمة على حدٍّ سواء ولكن بدرجات متفاوتة وفقاً لعدة عوامل من أهمها الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي داخل الدولة وتوفر الموارد الطبيعية والظروف المناخية المواتية.
ومن بين أبرز عقبات تحقيق الأمن الغذائي السياسية والاقتصادية: وجود النزاعات المسلحة والحروب الأهلية وغياب الحوكمة الرشيدة واختلال التوزان التجاري والاقتصادي، أما أهم التحديات البيئية فتتمثل بقلة الموارد الطبيعية كالأراضي الزراعية والماء والكوارث الطبيعية كالفياضانات وتقلبات المناخ ومواسم الجفاف وتبدد المحاصيل بفعل الآفات والحشرات، فضلاً عن ضعف قاعدة الموارد البشرية.
في نطاق العالم العربي، يعد انعدام الأمن الغذائي تحدياً كبيراً يتعاظم بسبب البيئة القاحلة وشح الموارد الاقتصادية والموارد الطبيعية كالماء وتزايد النمو السكاني السريع في العديد من الدول العربية، بالإضافة إلى محدودية أنماط المحاصيل وانخفاض مستويات استخدام التكنولوجيا.
علاوةً على ذلك، فإن الإقليم المضظرب يشتعل بالحروب والصراعات طويلة الأمد التي تقوض استدامة التنمية في العديد من الأقطار العربية.
هذا الواقع يضع المنطقة العربية أمام أزمات عميقة وممتدة في تحسين الإنتاج الزراعي وتعزيز الأمن الغذائي.
تعد تنمية الأرياف محوراً أساسياً في تحقيق الأمن الغذائي؛ حيث يقطنها السواد الأعظم ممن يعانون من نقص الأمن الغذائي، بالإضافة إلى أن أغلب سكان الأرياف يعملون بشكل مباشر في مهنة الزراعة، ومما هو جدير بالذكر أن حوالي ربع العمال حول العالم (26%) يعملون في الزراعة.
لذا لا يمكن الحد من انعدام الأمن الغذائي إلا بالمرور عبر تحسين الأوضاع المعيشية في هذه المناطق، ما يتضمّن العمل على زيادة أرباح المزارعين وأصحاب الحيازات الصغيرة من المحاصيل، وخلق فرص عمل خارج المزارع الريفية.
بشكلٍ عام، تتحدّد حالة الغذاء بالعلاقة ما بين الطلب على الغذاء والإمدادات الغذائية المتوفرة، وهو ما يرسم هيكل الاقتصاد الغذائي الذي يتأثر بالإنتاج الزراعي، وعمليات معالجة وتصنيع الأغذية، والتكنولوجيا، والأسواق والاستهلاك.
ويمكن حصر العوامل المؤثرة في حالة الغذاء في أربعة عوامل رئيسية:
السكان:
وهؤلاء ينقسمون إلى المستهلكين للمنتجات الزراعية والمنتجين للمحاصيل الزراعية المختلفة.
الموارد الطبيعية الزراعية:
ومن أهمها الأرض الزراعية والماء. وفي حين أن الأراضي الزراعية التي يمكن استصلاحها وتوسيع رقعتها تبقى محدودة فإن العديد من الدول تلجأ لرفع إنتاجية الأراضي الزراعية المتاحة عوضاً عن التوسع الأفقي في المساحة، بينما تحدد موارد المياه المتوفرة أنواع الزراعة المتبعة؛ مروية، بعلية، .. وأنواع المحاصيل المزروعة.
إنتاج الغذاء:
ويقصد به “معدل الزيادة في محصول وحدة المساحة“، وبينما تعد الحبوب أهم عناصر الإنتاج الزراعي فإن إنتاجها يمثل مؤشراً عاماً لحالة الغذاء، وتشمل محاصيل الغذاء الأساسية للإنسان ثمانية محاصيل نجيلية؛ هي القمح والأرز والذرة الشامية والشعير والذرة الرفيعة والدخن والشيلم والراي، وخمسة محاصيل درنية؛ هي البطاطس والبطاطا والكسافا واليام والقلقاس، والتي تشكل غذاءً مباشراً للإنسان كالقمح والأرز اللذين يسميان “الحبوب الغذائية” أو غير مباشر بعد تحويلها إلى أغذية بروتينية كالحبوب الخشنة، والتي يتم استخدامها في الإنتاج الحيواني بعد تحويلها لأعلاف حيوانية.
العامل البيئي:
تلعب التغيرات المناخية دوراً كبيراً في عملية الإنتاج الزراعي، ومن أهم المشاكل البيئية المؤثرة على الإنتاج ظاهرة الاحتباس الحراري، واضمحلال طبقة الأوزون، وتشكل الأمطار الحمضية.
بالرغم من التحسن المتسارع في إنتاجية الغذاء العالمي في العقود الماضية، إلا أن ذلك رافقه تزايد كبير في الكثافة السكانية ما أدى إلى استمرار انخفاض حصة الفرد الواحد من الغذاء بشكل مقلق في العديد من الدول خاصة في الدول النامية. ومن الجدير بالذكر أن فورة الغذاء المتحصلة لم تأتِ بالدرجة الأولى من استزراع مساحات جديدة من الأراضي، حيث تعد المساحات الزراعية مورداً طبيعياً محدوداً، بل من خلال رفع إنتاجية وحدة المساحة الزراعية المتاحة عن طريق توظيف التكنولوجيا الحديثة واستخدام مدخلات إنتاج ذات جودة أعلى في عملية الزراعة بشكل رئيسي.
في سبيل تحقيق الأمن الغذائي تتبنّى منظمة الأغذية والزراعة (فاو) نهجاً مزدوجاً لمكافحة الجوع والذي يجمع التنمية الزراعية والريفية المستدامة وبرامج تستهدف تعزيز القدرة المباشرة للناس الأكثر هشاشةً واحتياجاً على الوصول إلى الغذاء. بينما يتضمن المسار الأول تدابير التعافي لإنشاء أنظمة غذائية مرنة فإن المسار الثاني يقيّم خيارات الدعم المتاحة أمام الفئات الضعيفة.
_______________