عبد الفتاح ماضي
ليست كل الانتخابات التي تشهدها دول العالم المعاصر ديمقراطية، إذ طور الحكام أساليب عدة للتلاعب في الانتخابات لتحقيق مقاصد غير تلك التي ترجى من وراء الانتخابات الديمقراطية.
ولذا تستهدف هذه المقالة التمييز بين الانتخابات الديمقراطية التنافسية وغيرها من الانتخابات التي لا يمكن وصفها لا بالديمقراطية ولا بالتنافسية. وسيتم ذلك من خلال الوقوف على المحاور الثلاثة التالية:
أولا متطلبات الانتخابات الديمقراطية
تشير التجارب المعاصرة إلى أن الانتخابات الديمقراطية التنافسية لا تجرى إلا في نظم حكم ديمقراطية، أي أن هناك متطلبات للانتخابات الديمقراطية يمكن تلخيصها في مبادئ رئيسية ثلاثة:
1- تنظيم عمل مؤسسات الحكم من خلال الاستناد إلى مبدأ حكم القانون، أي تقييد سلطة الحكومة بدستور يخضع له الحكام والمحكومون على قدم المساواة، ويوفر آليات محددة لصنع القرارات وللمساءلة السياسية ونظام قضائي مستقل لحماية مبدأ حكم القانون وصيانة حريات الأفراد وحقوقهم.
2- تمكين المواطنين من المشاركة في عملية صنع القرارات السياسية واعتماد مبدأ التداول السلمي للسلطة وحق جميع القوى السياسية في التنافس على مقاعد الحكم، وذلك من خلال الاستناد إلى مبدأ “الشعب مصدر السلطة“، وأن الحكومة تقوم بممارسة السلطة بهدف تحقيق المصلحة العامة للمواطنين وليس لتحقيق مصالح فئة ما أو حزب معين.
3- تنظيم علاقة مؤسسات الحكم بالجماهير على أساس رابطة المواطنة، أي تمتع كل فئات المجتمع بكل الحقوق والواجبات على قدم المساواة، وتساوي فرص المشاركة في عملية صنع القرارات السياسية أمام جميع المواطنين دون تمييز على أساس الأصل أو اللغة أو العرق أو الدين أو المذهب أو المكانة الاجتماعية أو الاقتصادية.
ثانيا: مقاصد الانتخابات الديمقراطية
وبعد إرساء تلك المبادئ في الديمقراطيات المعاصرة –في شكل دساتير ديمقراطية– تجرى الانتخابات لتحقيق مقاصد محددة، أي أن الانتخابات هناك انتخابات فعالة، فهي ليست هدفا بحد ذاتها، وإنما هي آلية لتحقيق مقاصد أعلى أو تؤدي وظائف فعلية، هي:
1- تقوم الانتخابات بوظيفة التعبير عن مبدأ “الشعب مصدر السلطات” عن طريق إتاحة الفرصة أمام الناخبين لممارسة أظهر صور المشاركة السياسية وهي الانتخابات العامة.
وهذا يعني أن الحكومة تستند إلى عنصر التفويض الشعبي، فالحكم ليس حقا إلهيا كما في النظم الثيوقراطية، ولا يورث للأبناء كما في النظم الوراثية، كما أنه لا يتم من خلال القهر والغلبة كما في النظم العسكرية والدكتاتورية.
أما الانتخابات التي يجبر فيها الأفراد على التصويت لصالح الحكام نظير عائد مادي حال كولومبيا والنيبال في خمسينيات القرن العشرين، أو مقابل مبلغ نقدي معين أو مجرد الوعد بوظيفة مثل انتخابات 2005 المصرية فإنها لا تعبر عن إرادة الناخبين، وإنما تعكس حقيقة العلاقة بين الحاكم والمحكوم القائمة على التبعية المطلقة المستندة إما إلى خوف المدفوعين إلى المشاركة من تنكيل السلطة وبطشها أو تطلعهم إلى الحصول على مكاسب مادية أو معنوية.
ويرتبط مبدأ “الشعب مصدر السلطات” بحق الشعوب في تقرير مصائرها وتحديد من يحكمها عبر صناديق الانتخاب دون تأثير مباشر أو غير مباشر من الداخل أو الخارج.
ولذا فإن محاولة الولايات المتحدة التحديد المسبق لنتائج صناديق الاقتراع في بعض الدول العربية بحيث تستبعد بعض التيارات، بل ومقاطعتها لحكومة السلطة الفلسطينية التي شكلتها حماس في مارس/ آذار 2006 تتعارض مع مقاصد الانتخابات الديمقراطية.
2- توفر الانتخابات الديمقراطية الطريقة التي يختار من خلالها الحكام، وذلك من خلال انتقال السلطة إلى الفائزين في الانتخابات، فيما يتصل برئاسة السلطة التنفيذية أو أعضاء المجالس التشريعية أو الاثنين معا، وذلك وفقا لقواعد النظامين السياسي والانتخابي.
كما تضمن المجالس التشريعية –التي تأتي بها الانتخابات الديمقراطية– التعددية السياسية من خلال تمثيل جميع التيارات الرئيسية في المجتمع وتمثيل مناسب للنساء والأقليات.
أما انتخابات النظم غير الديمقراطية فغالبا ما تنتج برلمانات يهيمن عليها “أحزاب الحكام” حال انتخابات سنغافورة وكوريا الشمالية ومصر وسوريا.
3- توفر الانتخابات آلية للتداول على السلطة وتغيير مركز القوة وإمكانية تقلد قوى المعارضة الحكم بدلا من الحكومة القائمة، فالنظام الديمقراطي لا يسمح بتغيير الحكومات بطرق غير الاحتكام إلى أغلبية أصوات الناخبين، كالانتقال العنيف للسلطة بانقلاب عسكري أو ثورة مسلحة، كما لا يمكن إقصاء حكومة جاءت باختيار الناخبين.
أما انتخابات النظم غير الديمقراطية فتتسم بأن نتائجها تكون معروفة مسبقا وليس ثمة إمكانية لتغيير مركز القوة السياسية، وذلك ليس لثبات آراء الناخبين وإدراكهم للبدائل المطروحة، وإنما نتيجةً للآليات التي يطورها الحكام للتأثير على أصوات الناخبين بالترهيب والعنف وشراء الأصوات والتلاعب في النتائج.
4- توفر الانتخابات شرعية شعبية للحكومة المنتخبة حديثا أو تجدد شرعية الحكومة القائمة التي قد تحتاج مع مرور الوقت إلى تجديد شرعيتها وسط ناخبيها.
ولا شك أن حاجة كل نظم الحكم إلى قدر معين من الشرعية هي التي تدفع الحكام غير الديمقراطيين إلى اللجوء لآلية الانتخابات للحصول على ذلك القدر من الشرعية وسط شعوبهم.
5- للانتخابات مقصد هام هو محاسبة الحكام ومساءلتهم وقت الانتخابات إن من خلال تقويم برامج المتنافسين قبل الانتخابات أو عن طريق مكافأة أو معاقبة السياسيين إذا ما أرادوا الترشح للمرة الثانية.
6- تقوم الانتخابات الديمقراطية بدور تعبوي عام من خلال إعداد وتدريب السياسيين والقادة وتأهيلهم للمناصب السياسية، ما يسهم في تجديد حيوية المجتمع ويضمن مشاركة عناصر جديدة في وضع السياسات.
أما الدول التي لا تجرى فيها انتخابات ديمقراطية فهي غير قادرة على تجديد حيوية مجتمعها ولا الدفع بعناصر جديدة إلى مواقع صنع القرارات، ولذا يظل المجتمع لفترات طويلة تحت سيطرة حزب أو جماعة ما أو حتى دكتاتور فرد، وتفقد أجيال بالكامل الفرصة في المشاركة السياسية.
7- تقوم الانتخابات الديمقراطية بدور تثقيفي عام، فهي تشارك –مع وسائل أخرى– في تثقيف المواطنين بالمسائل المتصلة بالعمل العام قبل الانتخابات وأثناءها.
أما في الدول غير الديمقراطية فلا تجرى الانتخابات على أساس الأفكار والبرامج السياسية التي تعالج الشأن العام، وإنما على أساس أداء الخدمات والمصالح الشخصية، ولذا يعزف المثقفون عن المشاركة وتنتشر –كما في مصر– عبارة “نائب الخدمات” تعبيرا عن هذا الأمر.
ثالثا: معايير حرية الانتخابات الديمقراطية ونزاهتها
يتضمن معيار “حرية” الانتخابات أمورا ثلاثة:
1- أن تلك الانتخابات لا بد أن تحترم مبدأ حكم القانون، الذي يعني أن ممارسة السلطة بشكل شرعي لا تتم إلا من خلال خضوع الحكام والمحكومين –على قدم المساواة– لقانون مسبق, إنه مبدأ سيادة القانون بدلا من سيادة الملوك والأمراء، وطاعة القانون بدلا من الامتثال لقرارات الأفراد.
2- احترام الحقوق والحريات السياسية الرئيسية الواردة في الوثائق والاتفاقات الدولية والإقليمية، كحريات الحركة والتعبير والاجتماع وتشكيل المنظمات السياسية المستقلة عن السلطة التنفيذية كالأحزاب السياسية، وكذا ضمان حرية الترشح في الانتخابات وغيرها.
3- احترام مبدأ التنافسية أي وجود تنافس حقيقي بين مرشحين متعددين أو برامج مختلفة، ويتضمن هذا المبدأ معيارا كميا (عدم اقتصار الانتخابات على مرشح واحد فقط حال نظم الحزب الواحد في الاتحاد السوفياتي السابق ودول شرق أوروبا والعديد من دول أفريقيا وآسيا قبل موجات التحول الأخيرة), ومعيارا كيفيا (ضرورة توفر اختيارات وبرامج متعددة ومختلفة).
وبشكل عام تهدد الممارسات الفعلية للحكومات مبدأ التنافسية من خلال وضع عراقيل إجرائية لمنع نشوء أحزاب أو تكتلات تنافس الحكومات القائمة، وذلك حال الحظر الذي تفرضه السلطات في مصر وتونس على أنشطة الإخوان المسلمين والتيار الإسلامي، والحظر المفروض على الأحزاب الوطنية في إيران.
أما معيار “نزاهة” الانتخابات فيرتبط بحياد القواعد والأنظمة المنظمة لعملية الانتخابات وحياد الجهة المشرفة على الانتخابات في تعاملها مع كل أطراف العملية الانتخابية من مرشحين وناخبين ومشرفين ومراقبين، وفي جميع مراحلها بدءا من تسجيل الناخبين وضمان حق الاقتراع العام (دونما تمييز على أساس اللون أو الأصل أو العرق أو المكانة الاجتماعية أو الدين أو المذهب، ودون الإخلال بمبدأ الوزن المتساوي للأصوات).
مرورا بكيفية تحويل أصوات الناخبين إلى مقاعد نيابية (عن طريق تبني قانون انتخابي عادل وفعال)، وانتهاء بكل ما يتصل بالإشراف على الانتخابات وفرز الأصوات وإعلان النتائج.
كما تعني نزاهة الانتخابات مبدأ الدورية والانتظام، أي تطبيق القواعد الانتخابية نفسها –والمحددة مسبقا– على جميع الناخبين والمرشحين بشكل دوري ومنتظم وغير متحيز لفئة معينة.
ويستند هذا المبدأ إلى سمة رئيسية من سمات الديمقراطية وهي أن تقلد المناصب السياسية تحدد زمنيا بفترات محددة، فالمسؤولون المنتخبون لا ينتخبون مدى الحياة، وكذا إلى قاعدة أن محاسبة الحكام ومساءلتهم تقتضي أن يتم الاحتكام إلى الناخبين بشكل دوري ومنتظم بغرض الوقوف على آرائهم في شأن السياسيين المنتخبين وسياساتهم المختلفة.
ويعني ما تقدم أن الحكام في الديمقراطيات المعاصرة لا يمتلكون الحق في تأجيل أو إلغاء الانتخابات، كما أنه لا يمكن لهم مد فترة تقلدهم المناصب السياسية، وذلك حال فتح مرات الترشح لمنصب رئيس الدولة في مصر وتونس ولبنان وبوركينا فاسو وساحل العاج والغابون وأوزبكستان وتركمانستان.
وتتسم الانتخابات بمجموعة أخرى من المعايير لضمان نزاهتها، مثل ضمان سرية الاقتراع وحرية الاقتراع لجميع الناخبين وحق المتنافسين في الإشراف على سير الانتخابات من خلال مندوبيهم وحماية الدوائر الانتخابية من أي تدخل من أي جهة بغرض التأثير على الناخبين لصالح مرشح معين، وأمن الدوائر الانتخابية ضد أي عمليات عنف قد تستهدف تخريب الانتخابات أو تعطيلها.
كما تتسم الانتخابات النزيهة بشفافية عملية فرز الأصوات وإظهار النتائج وإعلانها، وإعطاء مهلة مناسبة لتلقي الشكاوى والطعون الأمر الذي غالبا ما تقوم به اللجنة المشرفة على الانتخابات أو المحاكم.
ومجمل القول أن مجرد إجراء انتخابات في بلد ما لا يعني أن نظام الحكم فيه قد خرج من مصاف الدول التسلطية أو الشمولية وأصبح ديمقراطيا.
فالانتخابات الديمقراطية الحقة لا بد أن تستند إلى دستور ديمقراطي يضع المبادئ الرئيسية للديمقراطية موضع التطبيق، كما أنها تتسم بأنها فعالة وحرة ونزيهة.
أما ما عدا ذلك من انتخابات فهي انتخابات تقوم بوظائف أخرى كإضفاء شرعية شعبية زائفة على الحكام، أو تخفيف الضغوط المطالبة بالإصلاح واحترام حقوق الإنسان في الداخل والخارج.
هذا فضلا عن أنها لا تتم بشكل دوري ومنتظم ولا تتسم عملية إدارتها بالحياد والشفافية، ولا تحترم مبدأ حكم القانون ولا تمكن أغلبية الناخبين من منافسة الحكام ناهيك عن إمكانية تقلدهم الحكم وتداول السلطة.
وذلك بغض النظر عن وجود قوانين تنص على حرية التصويت أو وجود برامج وبدائل متعددة أو مرشحين متعددين وقت الانتخابات.
فالعبرة ليست بالنصوص أو النوايا وإنما بالتطبيق الفعلي لتلك النصوص وللوظائف الفعلية للانتخابات.
***
عبد الفتاح ماضي ـ كاتب مصري
___________