محمد بالروين

لعل من أهم الأسئلة التي يجب أن يسألها هذه الأيام كل ليبي لنفسه: على أيّ شيء اتفق الليبيون؟ وما هي المشتركات التي تميّزهم عن غيرهم من الشعوب الأخرى؟ وهل بالإمكان الانطلاق من هذه المشتركات لإعادة بناء الدولة؟ بمعنى آخر، «من نحن؟».

إنّ تحديد معنى «من نحن» سيُحقق لنا ما يمكن أن نطلق عليه «الهوية الليبية الجامعة»، التي يمكن اعتبارها نقطة انطلاق لإعادة بناء الدولة، والتي من دونها لن يستطيع الليبيون تحقيق مفهوم الوطن الذي يحلمون به، ويرفعونه شعارا لهم.

الحقيقة المرّة؛ هي أن بعض النخب، المتصدرة للمشهد السياسي، تسير في «سباق نحو القاع» فعلى سبيل المثال:

بدلا من التعاون والتآزر، للخروج من هذا النفق المُظلم، الذي يعيش فيه شعبنا هذه الأيام، نجدهم ما يزالون مصرين على الاستمرار في الحفر لتعميق هذا النفق.

وبدلا من التسابق، للصعود إلى أعلى، والتنافس لتحقيق الاستقرار والأمان والإعمار، يعملون على حرق الأخضر واليابس، ونهب كل ما تقع عليه أيديهم.

وبدلا من الاشتباك الإيجابي، لتحقيق الأهداف المشتركة، نجدهم لا يبحثون إلا عن ما يفرقهم، ولا يفقهون إلا في فن التفكيك السلبي والضار، في التعامل مع بعضهم البعض.

وبدلا من البحث عن المشتركات التي توحّدهم وتجمع شملهم، يصرّون على القطيعة التامة، مع كل من يخالفهم في الرأي، ويعتبرونه خطرا يهدد وجودهم.

والأغرب من هذا كله، تجد بعضهم، لا يهمه تقييم ما تُقدمه من أفكار ومشاريع وبرامج، وإنما يبدأ حديثه معك:

في القبيلة بسؤالك : من أي عائلة أنت؟ ليُصنفك: هل أنت من الأعيان أم من العوام!

وفي المدينة، يسألك: من أي قبيلة أنت؟ ليصنفك: من الحضر أم من البدو! وإذا لم يكن في مدينتك قبائل (مُعلنة) فسيكون السؤال: من أي منطقة أو محلة أنت؟ ليصنفك: من مركز المدينة (أي عويلة البلاد) أم من أطرافها!

وإذا التقيت أحدهم لأول مرة في الخارج، فسيبدأ حديثه معك بسؤالك، من أي إقليم أنت؟ ليصنفك: من برقة؟ أم من طرابلس؟ أم من فزان؟!

وإذا كان الحديث فكرياً، فالسؤال سيكون حول موقفك من الحُكام العرب؟ ليصنفك: هل أنت من تيار الإسلام السياسي؟ أو من التيارات الأخرى؟ التي لا تؤمن بأن للإسلام بُعدا سياسياً، وأن دوره يقتصر على علاقة المرء بربه، وأن الدولة لا دين لها!

بمعنىً، يمكن للمرء أن يستنتج، أن أهم المعايير للتصنيف والتقييم، سلباً أو إيجاباً، في ثقافتنا الليبية، السائدة هذه الأيام، ترتكز بالدرجة الأولى على طبيعة ونوع الانتماءات العائلية والقبلية والعرقية والجهوية والثورية والفكرية، وأن المعايير العلمية والموضوعية الأخرى مثل: المعرفة والكفاءة والخبرة والأمانة والنزاهة والمقدرة، لا قيمة ولا وجود لها. وهذا دليل، واضح وخطير، على وجود أزمة حقيقية وعميقة، في مفهوم هويتنا وطبيعتها ومكوناتها.

وعليه فالتعريف بهذه الأزمة، وتحديد أسبابها ومكوناتها، وكيفية التعامل معها، والسعي الجاد لحلها، أصبح أمرا مهماً، وضرورياً للخروج من الوضع السيء، الذي يعيشه شعبنا هذه الأيام.

وبمعنى آخر، لا بدّ من تحديد «من نحن؟» وهذا يتطلب ضرورة الاتفاق على مجموعة من القيم والمعتقدات والمبادئ، التي تجعل منا شعباً واحداً، مُتنوعا ومُتكاملا ومتميزا على الشعوب الأخرى.

ويجب أن تشتمل هذه «الهوية الليبية الجامعة» على كل قيم وتجارب وعلاقات وسلوكيات الشعوب والقبائل والمكونات التي يتشكل منها مصطلح «الشعب الليبي» الذي يساهم في خلق إحساس مشترك للمواطن بذاته، وبوطنه، وبكل من حوله.

وعند ذلك سنعرف «هويتنا»، وما هي الطرق المشتركة التي نفكّر بها، والأساليب التي يجب أن نتعامل بها، مع بعضنا البعض، ومع العالم.

بمعنى آخر: إن تشكيل الهوية الليبية الجامعة، هو محاولة للوصول إلى «الذات الوطنية» التي من خلالها تتطابق مواهب المواطنين وإمكاناتهم، مع الأدوار السياسية والاقتصادية والاجتماعية الممكنة والمتاحة لهم، وتقوّي انتماءهم واعتزازهم بوطنهم، ويكونون بذلك قادرون على تحديد نقاط قوتهم، ويستطيعون اتخاذ القرارات الصعبة، ومعرفة كيفية التعامل معها بنجاح.

الخلاصة
باختصار، لا بدّ أن يُدرك الليبيون أنهم لا يعرفون من هم! أو على الأقل: لا يعرف بعضهم بعضا! وحتى المشتركات التي (كانت) تجمعهم – بما فيها المقدسات – قد أصبحت تتلاشى، والتي لم تتلاش، أصبحت يُساء فهمها!

فهل يُعقل، على سبيل المثال، أن تستعين بعض النخب، في قتال إخوتهم في الدّين ورفاقهم في الوطن، بالأجانب والمرتزقة والملاحدة، وتجار الحروب، وفي نفس الوقت لا يراودهم أدنى شك فيما يقومون به!

وهل يُعقل أن يتفنن بعض الليبيين في القتل والتنكيل، والتشفّي بعضهم في بعض، واستباحة كل المحرمات، وآخرون يقومون بتشجيعهم على ذلك، وفي نفس الوقت، يدّعي كل طرف منهم أنه الوطني، وأن خصومه وشركاءه في الوطن؛ هم الأعداء والعملاء الحقيقيون؟!

وهل يُعقل يا حكماءنا، أن يتفاخر ويتباهى بعض الليبيين بإجراء لقاءات، واجتماعات علنية بالأجنبي، ويسلّموا له كل ما يتعلق بمصير الوطن، ويمنحوه مرتبة الأستاذية، وفي الوقت نفسه يرفضون اللقاء والجلوس وجها لوجه، ولو لمرة واحدة، مع خصومهم من شركائهم في الوطن! من أجل حل مشاكلهم وإن كانت صعبة ومعقدة؟!

وهل يُعقل يا شرفاءنا من النخب، أن يأتي شريك لك في الوطن، ويقدم نفسه على أنه مُتعلم ومُثقف ومُحلل، وخبير في الشأن العام، وفي نفس الوقت يبدأ حديثه معك بمنطلق: «نحن.. وأنتم،.. وهم!”

نعمكل هذا وأكثر، رغم أنه ليس منطقيا ولا معقولا – فقد حدث! ويحدث! وسيحدث، لا سمح الله إذا استمر هذا الوضع المأساويّ على ما هو عليه.

والسؤال هو: كيف نفسّر كل هذا؟

في رأيي المتواضع، وبكل صراحة ومرارة، هذا يدل على أن «هويتنا» مفقودة! وإن لم تكن مفقودة فهي مُشوّهة، وأننا نعيش أزمة هوية حقيقية، ولا خيار أمام كل الوطنيين المخلصين، إلا الاهتمام بهذه القضية، والتعاطي معها بشجاعة وفي أسرع وقت، إذا أردنا فعلا أن نُعيد بناء الدولة، وتحقيق حُلم الوطن.

وعلينا أن نتذكر، أن الهوية الناجحة تقود إلى زيادة «حزمة المشتركات» بين أبناء الوطن.

وأن نتذكر، أن الدولة المدنية ليست «نادياً اجتماعيا»، وإنما هي «لقاء حضاريّ للفرقاء»، وأن هؤلاء الفرقاء، مهما اختلفوا مع بعضهم البعض، ليسوا أعداء، إنما هم شركاء في الوطن.

فهل في الإمكان اللقاء في داخل الوطن ومن أجله؟ والتحاور دون وسيط مهما كانت درجة قرابته ومصداقيته وحرصه؟ والتصارح فيما حدث، بكل شفافية وصدق ودون مجاملات؟ والتصالح على أساس العدل والإنصاف، واعطاء كل ذي حق حقه؟
في الختام

تعالوا يا رفاق الدربنرتقي إلى «مجتمع نحن» لا أن نهبط في «نفق الأنا». وهنا قد يقول قائل: هل في الإمكان تحقيق ذلك؟

في اعتقادي المتواضع أنه في الإمكان وبالإمكان. وأنا على يقين تام، بأن الليبيين الخيّرين قادرون على القيام بذلك وأكثر.
_________

المصدر: صفحة الكاتب على الفيسبوك

مقالات مشابهة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *