بين الخصوص والعموم أين هي نقطة اللقاء؟

أسأل نفسي دائما عما أنصح به غيري

وسؤالي هو : ما هو معيار الإفادة من التجارب؟

هل هي فائدة فردية قد لا تنتشر؟

أو هي فردية ثم تنتقل وتنتشر؟

وإذا انتشرت هل تتطور إلى تيار ورأي عامّ يمثل عقلا جماعيا؟

أو لا هذا ولا ذاك، ولا لا بدّ من سياق مختلف يمثل حالة أكبر وأعمق؟

هذه التساؤلات كلها لأتبيّن كيف تكون محصّلة التجارب مفيدة للشعوب والأمم؟

نحن في أمسّ الحاجة لمعرفة ذلك حتى نتحسس طريقنا وخطانا نحو الأفضل، وندرك كيف وظفت الأمم رصيد تجاربها، من خلال نخبتها، التي كانت في مستوى الأحداث والتغيرات، وأحسنت قراءة واقعها، وتجاوزت كل سلبيات وتبعات المراحل، بحنكة وحكمة، وليس بعاطفة هي أقرب للسذاجة البلهاء منها للطيبة الواعية، ودون تفريط فيما يجعل من الثوابت والمبادي ومكاسب الخير قاعدة مشتركة تحقق مصلحة ونقطة لقاء الجميع.

***

اللهم لك الحمد

ما أعظم فرحتنا بحريتنا

حين انتفضت جموعنا

ونفضت ركام الماضي المرير البغيض

تستعيد حقها وتظهر إرادتها وتقول في الميدان كلمتها

وتصفع كبرياء دجّال حاقد حاسد يسومها سوء العذاب

كم كابدنا الزمان والمكان والقضبان ووطأة الهوان

وكم مددنا الأعناق نحو الآفاق

نتحيّن فجرنا وخلاصنا

وطال الانتظار

حتى كاد يبلغ اليأس غايته ومداه

وكانت نهايته

جاء النهار بين إشراقة النور ولهيب النار

وسقط جدار الخوف والذل والاستعباد

فليقل القائلون ما شاؤوا

فكلهم ودون استثناء أحرار التفكير والتعبير

وما كان لهم غير الصمت وما أقساه

أو الهتاف للصنم

حتى هوى والأعين تراه

تحطمت أركانه وتناثرت أشلاؤه

وتجرّع عابدوه عواقب لم تخطر لهم على بال

التحية للشهداء وللدماء

التي روت بذرة الأمل

وللرجال الأحرار والحرائر

إنها ثورتنا التي نعرف سرّ فرحتها ووقود قوتها

ونقدّر أقدار من رفعوا رايتها

وسيعرف الخصوم ما كان منهم في حقها

شتان بين من ينتزعون حقهم في رابعة النهار

وهم يدفعون المهر غاليا

ومن يسطون على الغنيمة في منتصف الليل وهم يحرسونها

***

بين النقد وشفاء الغليل تنكشف نوايا وغايات

الروح النقدية في أسلوبها وغايتها لا تختلف سواء أكانت في ميدان الأدب أو العلوم أو السياسة..

والناقد عندما يكتب أو يتكلم ينبغي أن يكون منصفا، يتحدث في إطار الفكرة، وما يعززها أو يصلح من شأنها، ولا يكون شخص المقابل له أو شكله هدفا له، مع التأكيد على نقاط الالتقاء ونقاط التقارب مع من يخالفه الرأي، ليكون أدعى لكسبه وإنصافه.

أما الشماتة والصراخ والهيجان والاندفاع أو الانهيار العاطفي؛ فهو شأن الضعفاء، ذوي العُقد؛ عقد الشعور بالنقص أو الاضطهاد، وتصبح الغاية شفاء الغليل، وإغاظة الطرف الآخر، ودفعه إلى مزيد من التعنت والحقد.

من تاب من ذنب، أو أصلح من عيب، أو قادته التجارب والنضج لواقع أفضل، لا ينبغي أن نذكره بذنوبه وعيوبه، وكأننا …..

لاحظت كثيرا مما يُكتب لا ينصبّ على تعزيز فكرة صائبة، أو إصلاح أخرى والأخذ بأيدي أصحابها لما هو أهدى سبيلا، بل على الأشكال والأشخاص والماضي الذي انسلخوا منه وتجاوزوه.

للحرب قوانينها، وحتى الهجاء له معاييره، وللحب والكُره مسافات مقدّرة، مهما كانت لغة وأسلوب الطرف المقابل، وهذا لا يعني التفريط في الحقوق أو السكوت عن الجرائم.

إن استعمال الصور، والبحث عن العيوب، وكشف مستور الناس، لا يدلّ على نيّة نظيفة، ولا يحقق غاية حسنة، ومن يسلك هذه السبل لا يسلم عادة من الوقوع في أسوأ منها، من حيث يشعر أو لا يشعر، فالجزاء من جنس العمل.

الثبات على المبادي والعزم والحزم والانحياز للحق والحقيقة صفات تقتضي وتستوجب ما يليق بها من الصفات والألفاظ والأساليب، وإلا فما الفرق؟

***

خطوة إلى الأمام بين حقول الألغام

لست سياسيا حتى أحكم بمعايير السياسة ولغة الساسة، ولكني أعبّر عن رأيي، في زحام الآراء والتفاعلات، التي ملأت فضاء هذا الوسط الإعلامي المتاح لكل من يملك الدخول إليه.. وقد تعددت وتباينت الآراء وردّات الفعل على ما حدث اليوم في جنيف، والذي لقي ارتياحا أو شبه ارتياح، بعد زوال شبح ما كاد يصدمنا ويكدّر أجواء الذكرى.

عن نفسي؛ ومع ارتياحي بعض الشيء للنتيجة إلا أنني ما زلت أرى المشهد في إطار التفكيك وإعادة التركيب، مرسوم بإرادة دولية كاملة، وإطلالات إقليمية وضعت في حجمها هذه المرّة، وهذه حالة ستستمر إلى أمد قد يطول أو يقصر مداه، وبعض ارتياحنا اليوم، يجيء امتدادا لتطلعاتنا المتواضعة، حتى لا يقع الأسوأ، لأننا ندرك الواقع ونعرف حجم إمكاناتنا، وهي معادلة صعبة، قد تكون بين يدي عاقل يتلمس موضع خطواته نحو هدف نبيل بين حقول ألغام مختلفة الأحجام، أو بين يدي من لا يهمه إلا همّه وأمره.

يبقى التحدّي قائما فيما يتعلق باستحقاقات المرحلة، وما يستحقه ويصحبه من حراك أو انتظار.

***

الاستقرار والدكتاتورية نقيضان لا يجتمعان في عقل سويّ

الربط بين الاستقرار والدكتاتورية فكرة لا يستسيغها إلا الذين لم يرتقوا بعد إلى مستوى الشعور بقبح الظلم والظالمين، والذين لم تفدهم مسايرتهم لموكب الثورة، قيمة تجبّ ما قبلها لأنهم لم يكونوا مع شعبهم بنيّة صادقة، وعقب شفاء تام وذهاب علّة، بل ما زال في مخيلتهم وعقولهم الكثير مما كانوا فيه ونشأوا عليه، والدليل : عباراتهم وصفحاتهم المليئة بمصطلحات الطغاة والحنين إلى استقرار الزرائب والمَبَارِك، وتسفيه المعارضين الذين عانوا ويلات القتل والسجون والمنافي، وقوافل الشهداء على مدى أربعة عقود، وهم في الوقت نفسه يتلمسون الأعذار لمن سفكوا الدماء ونصبوا المشانق وكتموا الأنفاس، وأذلوا شعوبهم، وهم السبب الأول للخراب والدمار عند من يميّز بين الألوان والروائح والطعوم.

لكن سنن الله في الكون ماضية، وثمار التضحيات لا تضيع، وحركة التاريخ لا يوقفها شيء وهي أكبر من أن تطالها أفواه وأيدي الطغاة ومن عاشوا على فتاتهم.

***

المطالبة بالحقوق لا تكون ممن يهدر حقوق غيره

انتبهوا يا أبناءنا فالشماتة بنا وبكم ولن نجني من العبث إلا الندم

الغاية الحسنة لا تبرّر الوسيلة الخاطئة، والناصحون يقولون : (لا تغلط فتضيّع حقك) وهي نصيحة تغني العاقل عن كثير من المقال.

قفل الطرق والجامعات وتعطيل مصالح عموم الناس هل هي حقاً أعمال صادرة عمن يقومون بها، أم وراءها من لا نراهم، ممن يجيدون العبث بعقولنا، ويستدرجوننا للمواقف التي لا نُحسد عليها، وفيها الشماتة بنا، والضحك على مأساتنا، وعلى عاقبة ما تصنعه بنا أيدينا.

مثلما حدث وما زال يحدث في الجهة الأخرى من قفل الحقول ومواني النفط ووو

ينبغي أن نعي ونذكّر ويرتفع صوت الانكار والاستنكار لكل عمل طائش يعطل مصالحنا وحقوقنا ويترتب عليه ما هو أقسى وأنكى.

ويجب أن يحال أمر كثير من العبث إلى القضاء ليحكم فيه اليوم أو غدا.

***

حرية التعبير حق مكفول، له مثل ما عليه.

الفرق بين بلد حرّ وآخر عكسه حرية الانتماء والتعبير في حدود لا تنقض ركائز كيان وبنيان وثقافة المجتمع، ولا تتجاوز حدود الآخرين تهديدا وتسفيها وكذبا وبهتانا، ولا يليق بمجلس أو حكومة أو كيان سياسي أن يضيق بحرّية التعبير، بل عليه أن يؤكد عليها وعلى احترامها، ويجعلها مرآة لصوابه وخطئه، ويتعامل معها على صعيد الاقناع أو الاقتناع، أما أن يضيق أحد بوجهة نظر تخالف وجهته، ويراها تجاوزا للخطوط الحمر، فهي الطغيان والاستبداد بعينه.

ولم الخوف من المعارضة والرأي الآخر؟ إذا كانت الوسائل والغايات سليمة وصحيحة، والحقيقة ينبغي أن تقال وتُقبل، وأن تكون غاية، تجمع أو تفرّق، بعيدا عن الأحكام المسبقة، والمناكفات التي تتعلّل بتعلاّت وتبريرات لا تقف على رجلين.

والإنصاف يقتضي، أن النقّد لا بدّ أن ينطلق من تصويب الصواب، وتخطئة الخطأ، والمناقشة لمحلّ النزاع والخلاف، أما أن لا تعرف المعارضة إلا معارضة كل شيء، ولا تستوعب الحكومات والقيادات إلا لغة الحمد والشكر والتمسح بالأركان، فتلك إعاقة فكرية ينبغي أن يتجاوزها الجميع.

ومن المهمّ أن يضع الطرفان في كل قضية، أن بينهما وسطا ثالثا يعي ويتابع ويعنيه الأمر، قد يميل يمينا أو يسارا، وقد يكون له رأيه المختلف تماما، وحقه لا يجوز أن يُهدر أو يُهمل.

***

الشيءُ بالشيء يُذكر والبغي مرتعه وخيم

الكشف المهول المرعب عن (المرادم) في مدينتنا ترهونة ولا أقول المقابر؛ لأن للمقابر وضعاً مختلفا أمرٌ يثير تساؤلات لا حصر لها، أهمها : لأيّ عرق وفكر ينتمي هؤلاءالذين ارتكبوا هذه الأعمال المشينة؟ وكيف سيقضون بقية أيامهم إن بقي لهم منها شيء؟ وأيّ وصف يليق بنا جميعا إن كان منا إهمال لهذا الملف أو تهاونٌ مع هؤلاء المجرمين؟ امرأة تقتل ثم يدسّونها في التراب وهي تحتض وليدها!!! هل يملك هؤلاء المجرمون شعرة من رجولة؟ أو ذرّة من مروءة؟ أو صفة من صفات بني آدم؟

ألا لعنة الله عليهم وعلى من قاتل معهم وقاتلوا معه، ومن أفتى ودعا وطبّل ورقص لهم.

إنها مدرسة القذافي ووحشية صعاليكه، قاعدتها : الحقد والانتقام، وثمرتها خراب الوطن، وشرخ نفسي واجتماعيّ يعسر جسره، وتلك أهم أسباب نهايته ونهايتهم التعيسة البئيسة، وشتاتهم وتردّيهم المستمرّ إلى قاعٍ لا قرار له حسّاً ومعنىً، فاللعنات تصيب المقاتل، وتلحق الفروع وفروعها، ووقعها أليم شديد.

أخبرني منذ عامين صديق وإعلامي : أنّ أحد أفراد مليشيات (معمر) الذين قُبض عليهم في 2011 ذكر له : أنه كان في ميناء طرابلس، فجاءت سيارة عليها حاوية أنزلتها رافعة (فوركة) ووضعت تحت الحراسة، حتى جاء أحد أولاد القذافي (معتصم أو خميس) أحدهما، فتوجّه (الولد) إلى الحاوية وفُتح له بابها، ليوجّه لمن فيها من السباب والشتائم ما قارب شفاء غليله وحقده ثم انصرف، وأغلق الباب، وجيء بأسطوانتي غاز، أدخلت خراطيمهما في ثقبين جرى ثقبهما في تلك الحاوية، وفتح الغاز حتى أفرغتا ما فيهما، ثم جاءت الرافعة وانتشلت الحاوية المنكوبة، واستدارت لتضعها على سطح عبّارة (لانشة) بحرية انطلقت بها إلى عرض البحر ثم عادت من دونها! سأله : ومن كان في هذه الحاوية؟ قال : إنهم أفراد من إحدى الكتائب رفضوا الذهاب للقتال ! وأما قصة معسكر اليرموك وحرق من فيه من السجناء فهي موثّقة صوتا وصورة، ومقتل عبد السلام اخشيبة موثّق صوتا وصورة، وليسا في حاجة لأيّ تعليق. اللهم إنا نبرأ إليك ونستنصرك.

***

الصداقة بين اللفظ والمعنى على شبكات التواصل؟

هل (الصداقة) كلمة ذات قالب ومضمون؟ له حقوقه ومطالبه؛ أو هي مصطلح حَرْفيّ في عالم افتراضيّ، اقتضها إعدادات وبرمجيات فهي لا تزيد عن كونها علاقة لا علاقة لها بعالم الواقع؟

(الصداقة) كلمة ذات دلالات ومعاني، الأصل فيها أن تكون في الواقع والمحك الحياتي، ولها مقتضياتها وحقوقها وشواهد ثبوتها ودوامها، وقد تنشأ وتكون في عالم افتراضي (الفيس مثلا) ثم تتأكد وتأخذ طريقها للواقع المحسوس، وفي الحالتين ينبغي أن تتوفر لها عناصر المعرفة والثقة.

وهنا نستحضر شيئا من معاني وقوانين وأساليب اللغة والنحو العربيّ، في أبواب المعارف والنكرات والتوابع، تطلّ على واقعنا بأماراتها وإشاراتها ورموزها، فنجدها حية تسعى تعزّز شأن هذا، وترعب ذاك.

بعض أصحاب الصفحات لا يضع اسمه ولا صورته كما هما في الواقع ثم يطلب صداقة من اسمه وصورته وسيرته على صفحته! وقد يريبني أمره حينا، وألتمس له الأعذار أحيانا أخر، ولا أملك فصل الخطاب في هذه القضية.

هذه الشبكة التي نركبها ونستخدمها؛ وبعضنا لا يقنن صلته بهاهي ميدان مكشوف تهيمن عليه عقول وأصابع ودوائر لها غاياتها ووسائلها، ولا يمكننا أن نُحسن الظنّ بها، وهي تستدرجنا إلى ساحتها وملعبها لتحيط بما لدينا، وفي ذات الوقت نحن لا نملك غيرها حتى الآن، ويمكننا الإفادة منها، واتقاء خطرها، باستحضار ما يلزم في مثل هذه المواطن والمواقف.

***

تقلبات السياسة تختلف قراءتها من قارئ لآخر :

واقعية وفن تعامل مع المستجدات.

خضوع وتبعية وإملاءات.

تمثيل وضحك على الذقون.

قد يكون : هذا أو ذاك، أو : هذا وذاك، أو : لا هذا ولا ذاك!

في رأيي : الثبات على المبادئ هو العمود الفقريّ للكيان الفردي والجمعي، وهو الأساس الذي لا بدّ منه، ولا بدّ من وجود ما يثبته ويؤكده، لكن التعامل مع الواقع وتطوراته يتطلب قدرة على استيعاب لما يحدث ويستجدّ وفق قراءة دقيقة، بمنأى عن العواطف والحماسة الزائدة عن حدّها، مع استحضار ما يترتب عن هذا وما سيترتب عن ذاك.

الحياة تجارب، وعبر ودروس، ينبغي أن تزيدنا وعيا وفهما، وتوظيفا أمثل لتجاربنا في وصف ورسم مستقبلنا، لا أن نخرج منها ناقمين نشتم ونلعن ونلبس أثواب الحداد وندعو غيرنا للباسها.

الكون تحكمه مشيئة وإرادة الله تعالى، التي تضبط منشأ ومبدأ ومصير كل شيء، وتحتها تكون مشيئات وإرادات وأفعال شخوص ودول وأمم، لها استقلال لا يتجاوز نطاقه، لكنه لا يسلبها حريتها ومسؤوليتها؛ وهامش مناورتها، حتى يكون لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.

والتقاط الصورة من زاوية قريبة لا يعطي قراءة ولا يفيد تجربة، لكن المنظرّ الجويّ من الأعلى يعطي صورة مكتملة، تضع الأشياء في حجمها ونصابها، وتصحح النظر وتعمّق التجربة، وتملأ القلب سكينة وطمأنينة مهما كانت التقلبات والنتائج.

***

الحياة محطات ومنعطفات وتجارب لا تنتهي

هل نحن من يطوى الأيام والأعوام أو هي التي تطوينا؟

عقود وسنين لم يبق بعدها إلا الأقل منها فقد مضى الكثير

خلالها كانت حوادث وذكريات وصور تختلف أشكالا وألونا

وتختلف المسافات بينها عدّا واعتداداً..

على الحالين نلتفت على ماض طويل انقضى ومضى

بعض صوره وآثاره وذكرياته تلاشت وامّحت أو تداخلت واشتبكت خيوطها

منها ما نذكره فنستريح ونطمئن ونرقّ وتشدّنا الذكرى

ومنها ما نذكره فنغالب منغصات ومكدّرات تكتنفه

ومنها لا نجد له تصنيفا يطابقه ولا حكما يناسبه !

فالحكم على أي شيء فرعٌ عن فهمه المكتمل حتى لا نظلم أو نُظلم.

رجال وأصحاب وأصدقاء وأشخاص وغرماء وجيران

منهم من طالت صحبته وجواره ولقاءاته وأحاديثه، وبقي مع طول المدى وبعد المنتأى خلّ وفاء وصفاء.. ومنهم من لاحت منه ثم كانت الجفوةٌ ببُعده أو ابتعاده

ومنهم من كان صاحبا بالجنب في رحلة قطار أو طائرة لكنّ مودته وأريحيته بقيت

عقول رجال، وأخرى دون ذلك، بعضها يلفه غموض يعود لصاحبه أو ارتباطاته وانتماءاته، وأخرى بين بين، يُلتمس لها العذر في أشياء دون أشياء

وهكذا سنة الحياة والأحياء؛ ما كان لله دام واتصل، وما كان لغيره انقطع وانفصل؛ لا يجدي اللوم أو العتاب ولا تنفع الحيل أو تكلّف السبّل…

***

في ذكرى استقلالنا

نغالب آلامنا ونرقب آمالنا

أيام كثيرة مرّت على ليبيا، تفاوتت شدة ورخاء، وتعاسة وسعادة، لكن أبرزها وأطيبها وأقربها إلى عقول وقلوب الخيرين : يوم إعلان الاستقلال، ذلكم الحادث السعيد، الذي يحبه ويحنّ إليه شوقا وصبابة شرفاءُ الوطن، دون استثناء، في شرقه وغربه وجنوبه وشماله وكل أنحائه، حتى الذين يكابرون لشيء خفيّ أو معلن – يعرفون قيمته، وقيمة الرجال الذين تحقق على أيديهم، ويجدون في ألوان ورمزية رايته التي مثلت واختزلت حكاية طويلة الأبواب والفصول، ما لا يجدون فيما صنعوا من رايات وأعلام.

الاستقلال ذكرى وتاريخ ورموز تركيبة تجمعنا، وتكفكف كثيرا من غلواء العداء والبغضاء، ونعرات العرقية والجهوية والحروب التي يوقدها ويلهب نارها من نعرفُ ومن لا نعرف، من الغرباء والدخلاء وأبناء جلدتنا الخبثاء، ممن أعمى الحقد أبصارهم وبصائرهم، وفي المحصلة : جميعنا تعبث بنا يدٌ سوداء، لا همّ لها إلا فرقة تظل نارها مستعرة، ليروا من ورائها خرائب الوطن، وأبناءه ما بين المحن والإحن، ولا قيمة للزمن.

لقد حقق الأجداد حلما، وانتزعوا حقا، ودخلوا لعبة أكبر منهم؛ لكنهم كانوا يصرّون على أمرين مهمّين : استقلال البلاد ووحدتها، في كل الأروقة والمناسبات والعواصم.

نعم كانت بينهم خلافات وسجالات وحتى مناكفات إن بقي شيء منها فهو لا يرد إلا في دائرة النوادر والطرائف، ويكفي ما كان منهم من تضحيات وما تحقق على أيديهم خلال مدّة وجيزة شكلت تحدياً كبيرا وخطيرا، دستور ومؤسسات مدنية وعسكرية معتبرة وخطوات في الطريق نحو الاستقرار والبناء ضيعتها أحلام ومغامرات من تطفلوا على المؤسسة العسكرية لينقضُوا عُرَى الدولة الليبية عروة عروة، ويشبعوا شهوات الحكم، التي ملأت نفوسهم، وفاضت حتى أعمت قلوبهم وعقولهم، حاولوا تمويهها وتغليفها وتسويقها بشعارات ومسميات صيغت لهم في قوالب مضحكة مبكية، وقف الناس على عواقبها عند أول تجاربها.

انقلاب، قلب الأمور راساً على عقب، وأدخل البلاد فيما لا نجد لها وصفا سوى أنها (دوامة ومنزلق نحو مجهول مرعب) أبرز مكوناته : حكم فرديّ مزاجيّ مطلق، وضياع مقدرات البلاد، في ظل استقرار صوريّ زائف، واستفاق بعض من عقلاء العسكر في مراحل مختلفة، لكن الوقت كان قد فات و(الصيف ضيعت اللين) ثم تكشفت الشواهد والحقائق وأيقن الكل بحجم الكارثة، وكانت الثورة الكبرى، وكان مستوى انفجارها بحجم وطأة الكبت والرهبوت الذي جثم على القلوب، وأثمر الحقد أحقادا، والثأر ثارات، والظلم ظلمات، وما زالنا نكابد الأمرّ ونلملم الجراح ونعالج الآثار.

ومع كل هذا فإننا نجد في هذا اليوم، لمسة حانية، وأريحية هادئة، وهمسة من ذكرى تلقي في آذاننا كلمات تمسّ وجداننا، كأنها يدٌ تربت على كتف شارد حائر وتشير ببنانها إلى صندوق تحت غطائه أمانة، ووصية من أب ذاق أبناؤه مرارة فقده بعد عقوقهم إياه.

يذكر شرفاء وعقلاء ليبيا في هذا اليوم السيد محمد إدريس السنوسيّ ملك البلاد، الذي كان في طليعة وعلى رأس الرجال الذين أسسوا الدولة الليبية الحديثة، إدريس السنوسي الذي شوّه الانقلابيون تاريخه وتاريخ من كانوا معه، وافتروا عليهم ما لم يكن منهم، وجعلوا ذلك تاريخا ومنهجا دراسيا، يمحو آثار الصالحين، ويقطع صلة الأجيال، ويلوث براءة الناشئين، ويغرس في أذهانهم بذور العقوق والإساءة ونكران الجميل، ولعن الآباء والأجداد.

رحم الله إدريس السنوسي، كان سياسيا حكيما، ورجلا فيه صلاح ومحبة لوطنه وقومه، وإن كانت له هفواته وأخطاؤه، لكنها لا تدينه ولا تجرّمه، ولا تمس هيبته وسمعته، فما كان رحمه الله جباراً أو حاقدا، أو مغامراً، أو طائشا عابثاً، وما كان عنتريا استعراضيا أمام الكاميرات والميكروفونات وحشود المرغمين على الحضور، كان يدرك ما حوله من لعبة الأمم، ويجيد فنّ التعامل معها بما يحقق مصلحة الوطن، وكان له منهجه وطريقته واحترامه، والحكم عليه وعلى تاريخه وعهده لا يؤخذ إلا من أفواه وأسطر الدارسين والباحثين المتخصصين.

الملك إدريس رحمه الله – كان قليل الكلام، لكنك تجد في كلامه بوضوح وجلاء، روح ذلك الجيل، وبُعد النظر، وخلاصة التجارب، وتكفيه تلك الكلمة الطيبة : “المحافظة على الاستقلال أصعب من نيله“.

رحم الله آباءنا رموز الجهاد وصنّاع دولة الاستقلال؛ الذين مهدوا لنا الطريق نحو غد واعد، نجني نحن ثمراته وبركاته بما يكون من أمان واستقرار ورفاه، رأوا في ذلك خير عوضٍ لهم عن كل ما لقوه وعانوه من معاناة وظلم وحرمان.

________________

المصدر: صفحة الكاتب على الفيسبوك

مقالات مشابهة

2 CommentsLeave a comment

  • Стационарный вывод из запоя обеспечивает постоянный медицинский контроль и доступ к современному оборудованию. Это особенно важно для пациентов с тяжелыми формами зависимости, требующими комплексного лечения. Стоимость стационарного лечения варьируется от 15 000 до 60 000 рублей, в зависимости от сложности случая и объема необходимых процедур. В клинике “Пульс жизни” используются только проверенные методы и препараты, что гарантирует эффективность и безопасность лечения.
    Получить дополнительную информацию – [url=https://kapelnica-ot-zapoya-voronezh2.ru/kapelnica-ot-zapoya-v-stacionare-v-voronezhe/]http://www.kapelnica-ot-zapoya-voronezh2.ru/kapelnica-ot-zapoya-v-stacionare-v-voronezhe[/url]

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *