أبو القاسم المشاي

ثالوث الضغط و“نزع المخاطر” عن ليبيا
تعيش ليبيا حالة من الجمود السياسي المتصلب، لكن خلف الكواليس، تتحرك آليات دولية قوية ترسم ملامح مرحلة جديدة لا تُبقي ولا تذر.
إن تزامنَ ثلاثة أحداث متباينة: قرارُ تجريم صادر عن ولاية أمريكية، مطالبات ليبية بفرض العقوبات، ومحادثاتٍ مالية مع البنك الدولي، ليس مصادفة، بل هو “ثالوث ضغط” استراتيجي يهدف إلى نزع المخاطر عن المشهد الليبي، أيديولوجياً وسياسياً ومالياً.
مطرقة “التجريم الأيديولوجي“: رسالة من تكساس إلى طرابلس
إن إعلان حاكم ولاية تكساس، بتاريخ 18 نوفمبر 2025، تصنيفَ جماعة الإخوان المسلمين و”مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية منظمات إرهابية أجنبية ومنظمات إجرامية عابرة للحدود” هو حدث غير مسبوق في تأثيره المحتمل على منطقة الصراعات.
هذا القرار، رغم كونه قانوناً خاصاً بولاية، يعكس تحولاً عميقاً ومتصاعداً في السياسة الأمريكية تجاه الإسلام السياسي، مانحاً إياه صفة “الخصم الأجنبي” الذي يجب منعه من حيازة الأراضي في الولاية.
تأثيره على ليبيا:
يُرسل هذا الإعلان رسالة واضحة للقوى الليبية: إن المظلة الأيديولوجية التي كانت تحمي بعض الأطراف في السابق في واشنطن تتعرض للتآكل.
أي شخصية أو فصيل ليبي يُنظر إليه على أنه ذو صلة مباشرة أو غير مباشرة بهذه الكيانات أو امتداداتها، يجد نفسه الآن مهدداً بـالإقصاء الأيديولوجي المُمأسس، ما يزيد من صعوبة قبوله كشريك موثوق به في أي تسوية مستقبلية.
العقوبات المشروطة: تفعيل سيف الكونغرس
تتكامل حركة التجريم الأيديولوجي مع الرسالة المفتوحة التي تحثُّ الكونغرس على التحقيق في أنشطة “المجلس الوطني للعلاقات الأمريكية الليبية” وتفعيل “قانون الاستقرار في ليبيا” لفرض عقوبات على المعرقلين.
هنا يكمن الجانب السياسي والقانوني للضغط:
تحويل النفوذ إلى عائق:
الرسالة تهدف إلى تحويل نفوذ اللوبي والاجتماعات غير الرسمية (مثل الزيارة المعلنة في أبريل 2025) إلى عبء قانوني، مطالبة الكونغرس بالتحقيق في التمويل والصلات، مما يعني استخدام الأدوات التشريعية الأمريكية لتنظيف المشهد الليبي من المعرقلين.
فرض المحاسبة:
الدعوة لتفعيل عقوبات القانون على “الفاسدين والمعرقلين” تضع السيف على رقاب النُخَب الليبية، محذّرة إياها بأن اللعب على وتر الانقسام الداخلي لن يُقابل بالتساهل أو المحاصصة، بل بـالتجريم المالي والسياسي.
بوابة “اقتصاد الشفافية“: الطريق الإجباري للشرعية
في المقابل، تأتي زيارة الوفد الليبي للتباحث مع البنك الدولي حول خطة تعاون لعام 2026، وإصلاح المالية العامة، وتعزيز الشفافية. هذا المسار يمثل الترياق الوحيد المقبول دولياً للأزمة الليبية.
المجتمع الدولي، بقيادة واشنطن، بات يدرك أن الاستقرار السياسي في ليبيا لن يتحقق دون إعادة هيكلة اقتصادية جذرية. البنك الدولي لا يقدم تمويلاً مجانياً، بل يفرض “شروطاً مالية” تتمثل في:
● توحيد مصرفي حقيقي لا شكلي.
● نشر كامل لبيانات الإنفاق والإيرادات (الشفافية المطلقة).
● محاربة الفساد المؤسسي.
هذا المسار الاقتصادي يجرد القوى المعرقلة من سلاحها الأقوى:
التحكم في الموارد الوطنية. وبالتالي، يتم دفع الأطراف الليبية دفعاً نحو قبول الشرط الدولي الأهم: الشفافية أولاً، ثم تقرير المصير ثانياً.
التغيرات السياسية المحورية في ليبيا: الإقصاء المُمَأَسس
تؤدي هذه الضغوط المتزامنة إلى إعادة تعريف قواعد اللعبة في ليبيا:
▪︎نهاية “حياد” النخب: لم يعد بمقدور النخب الليبية تبني مواقف رمادية. فإما الانحياز للمسار الدولي(الشفافية ومكافحة الفساد وترك الأيديولوجيات المصنفة) أو مواجهة خطر الإقصاء المزدوج:
الإقصاء السياسي(بالعقوبات) والإقصاء الأيديولوجي (بالتجريم).
▪︎صعود التكنوقراطية المشروطة:
ستكتسب الشخصيات التكنوقراطية التي لديها القدرة على تلبية شروط البنك الدولي والمؤسسات المالية الدولية وزناً أكبر بكثير من القادة العسكريين أو السياسيين. الحل سيصبح “فن إدارة الشفافية” لا “فن إدارة الصراع“.
▪︎إعادة تعريف الشراكة الأمريكية:
بعد فترة من الحذر، تُحدد الولايات المتحدة الآن شركاءها المستقبليين في ليبيا بصرامة: يجب أن يكونوا غير إيديولوجيين وغير فاسدين. أي طرف ليبي يسعى للدعم الأمريكي يجب أن يقطع علاقاته مع الفاعلين الذين تم تجريمهم أو تصنيفهم كمعرقلين.
إن هذه الأحداث المتزامنة لا تمثل مجرد ضغوط عابرة، بل هي مؤشر على أن القوى الدولية بدأت تتبنى استراتيجية موحدة وجامعة لحلحلة الأزمة الليبية عبر تجفيف منابع النفوذ الأيديولوجي والمالي.
ليبيا اليوم على مفترق طرق بين البقاء في فوضى المحاصصة أو القبول بـ“الإقصاء المُمأسس” كشرط وحيد للوصول إلى الاستقرار.
_____________
