نسرين سليمان

أعلن المصرف المركزي الليبي، مؤخراً، عن عملية واسعة لسحب كمية ضخمة من النقد المتداول في السوق المالي بلغت 47 مليار دينار ليبي، وهي خطوة تأتي في سياق جهود المصرف لضبط وتنظيم السيولة، وقد تضمنت هذه المبالغ المسحوبة نحو 10 مليارات دينار مزورة ومجهولة المصدر، حيث تمت طباعتها وتداولها بطرق غير قانونية تمامًا وخارج الإطار الرسمي.
وقد أوضح المصرف أن هذه العملية شملت سحب الأوراق النقدية من فئات الدينار الواحد، والـ 5 دنانير، والـ 20 دينارًا على وجه الخصوص، مشيرًا إلى أن وجود هذه العملة المزورة قد أحدث تأثيرًا سلبيًا ومباشرًا على قيمة العملة الوطنية، كما زاد من الضغط على السوق الموازي ورفع بشكل كبير من مخاطر أنشطة غسل الأموال وتمويل الإرهاب داخل البلاد.
وتكشف البيانات الصادرة عن المصرف المركزي عن وجود فوارق مالية كبيرة وغير مبررة بين ما تم إصداره فعليًا وما تم توريده للسوق، ويظهر هذا التباين بشكل خاص في فئة الـ 20 دينارًا>
وقد سُجل فارق مالي يناهز 6.5 مليارات دينار ليبي، وهو ما يعادل تقريبًا 1.2 مليار دولار أمريكي، إذ بلغت الكميات المعتمدة والمُصدرة رسميًا 13.448 مليار دينار، بينما وصلت الكميات التي تم توريدها بالفعل إلى 19.979 مليار دينار.
وقد أكد المصرف أن هذه الكميات الإضافية من العملة لم تُسجل على الإطلاق في سجلاته الرسمية الموجودة في بنغازي، ولم يتم طرحها عبر أي من القنوات القانونية المعتمدة، مما يؤكد أنها عملة طُبعت ووُرّدت خارج منظومة الرقابة المالية للدولة.
وفي سياق متصل، خاطب وزير الاقتصاد محمد الحويج مصرف ليبيا المركزي بشأن ما أسماه بـ «تسرب عملة مزورة» تجاوزت قيمتها الـ 10 مليارات دينار إلى حسابات العملاء ضمن المنظومة المصرفية.
وشدد الوزير على أن دخول هذه العملة المزورة قد أدى إلى ارتفاع غير مبرر في الخصوم الإيداعية للبنوك دون أن يرافقه أي نمو حقيقي في الأصول أو النشاط الاقتصادي الفعلي للبلاد، وهو ما أحدث خللًا واضحًا في التوازن النقدي وأسفر عن ضغوط متزايدة على السيولة، الأمر الذي انعكس سلبًا في ارتفاع ملحوظ لأسعار الصرف في السوق الموازية.
وطالب الحويج المصرف المركزي باتخاذ إجراءات حاسمة، بما في ذلك تتبع حركة الأرصدة المودعة التي دخلتها العملة المزورة داخل الحسابات المصرفية ومطابقتها مع مصادرها الأصلية للتحقق منها، كما دعا إلى فرض إجراءات تحفظية على العمليات المشتبه بها، تشمل تجميد أو تقييد هذه العمليات حتى الانتهاء من التحقيق الكامل.
وأضاف الحويج مؤكدًا على ضرورة إحالة كافة محاضر الاستدلال بشأن هذه الواقعة إلى النائب العام، وعدم إتلاف العملة المضبوطة إلا بعد أن يتم مطابقتها والتحقق منها من قبل طرف ثالث مستقل.
وقد أثار الكشف عن ضبط هذه الكميات الضخمة من العملة المزورة، البالغة نحو 10 مليارات دينار، موجة واسعة من الجدل والمطالبات الشعبية والرسمية بفتح تحقيق فوري وشامل، ومحاسبة كافة الجهات المتورطة في طباعة وتداول هذه المبالغ خارج نظام الدولة المالي الرسمي في تعليقه على هذا الخرق الجسيم.
وشدد المجلس الأعلى للدولة في بيان صادر عنه على أن تداول المليارات في السوق دون تسجيل رسمي يعد «خرقاً جسيماً للقانون المالي والمصرفي الليبي»، مؤكدًا أنه يرقى إلى مستوى «جريمة منظمة تمس السيادة النقدية للدولة» وتشكل تهديدًا مباشرًا لـ «استقرار العملة الوطنية»، الأمر الذي يُفاقم من مخاطر التضخم ويزيد من فرص غسل الأموال.
ودعا المجلس بشكل صريح الجهات المختصة إلى فتح تحقيق معمق لتحديد المسؤوليات المؤسسية والشخصية لأي جهة أو فرد ساهم في هذه التجاوزات أو تغاضى عنها، كما طالب بإجراء تحقيق إداري ومالي في آليات طباعة وتوريد العملة بأكملها.
من جهة أخرى، عقد رئيس المجلس الأعلى للدولة، محمد تكالة، اجتماعًا مع رئيس هيئة الرقابة الإدارية، عبدالله قادربوه، لمناقشة ما ورد في بيان المصرف المركزي بالتفصيل، وبحث الآثار السلبية الوخيمة المترتبة على هذا الخرق المالي الخطير.
وقد استعرض الجانبان خلال هذا اللقاء الإجراءات القانونية اللازمة والواجب اتخاذها تجاه كل من الأفراد أو الجهات المتورطة في عمليات تزييف العملة، وبحثا سبل تعزيز التنسيق بين مختلف الجهات الرقابية والمالية في الدولة لضمان حماية الاقتصاد الوطني والحفاظ على الثقة المفقودة في النظام المصرفي .
وأكد تكالة على أن التعامل مع هذه القضية يجب أن يكون بحزم شديد نظرًا لتأثيرها المباشر على الاستقرار المالي والاقتصادي للبلاد، مشددًا على ضرورة تفعيل أدوات الرقابة وتكثيف الجهود للكشف المبكر عن أي محاولات تزييف مماثلة في المستقبل، بينما قدم قادربوه شرحًا مفصلًا للإجراءات التي اتخذتها الهيئة فور علمها بالبيان، واستعرض التدابير المقترحة لتعزيز التعاون مع المصرف المركزي والمؤسسات الأمنية المختصة.
بدورها، أدانت كتلة التوافق هذا العمل بشدة، مؤكدة أن حجم الأموال المزورة التي تم الكشف عنها يعتبر «جرائم موصوفة ومتكاملة ضد الدولة وكيانها المالي وأمنها القومي»، وطالبت الكتلة بالإسراع في الكشف عن الجهة أو الجهات التي تقف وراء ضخ هذه المبالغ الهائلة في السوق الليبي بعيدًا عن القنوات الرسمية، كما طالبت البرلمان بضرورة الإسراع في إقرار قانون مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، معتبرة إياه خطوة ضرورية وحاسمة للحد من حالة الفوضى المالية وحماية الاقتصاد الليبي من الانهيار.
ويأتي هذا الكشف الأخير بعد أن كانت ليبيا قد شهدت حالة مماثلة في حزيران / يونيو الماضي، حيث تم ضبط ما يزيد عن 3.5 مليارات دينار ليبي من فئة الخمسين دينارًا كانت قد طُبعت خارج البلاد بطرق غير قانونية أيضًا.
وتأتي هذه التطورات جميعها في ظل استمرار حالة الانقسام المالي والمصرفي الذي تعيشه ليبيا، نتيجة لانقسام مؤسسات الدولة بين الشرق والغرب، وهو ما أدى إلى وجود مصرفين مركزيين في طرابلس وبنغازي، لكل منهما سياساته المالية الخاصة، الأمر الذي أوجد بيئة خصبة للفوضى المالية الكبيرة وزاد من تعقيد المشاكل الاقتصادية والأمنية المتعلقة بالعملة المتداولة.
____________