المهدي هندي

تتجسد أزمة ليبيا في أكثر من ملف سياسي أو اقتصادي؛ هناك تهديد أكثر هدوءًا وعمقًا يمس صميم حياة المواطن… الأمن الغذائي:

وبينما تسعى دول إقليمية رغم تحدياتها لتحقيق الاكتفاء الذاتي بفضل الاستقرار والتخطيط الفعال، تظل ليبيا متأرجحة بين التبعية للخارج وفرص ضائعة لتوحيد جهودها حول هذا الملف الحيوي.

ظل الليبيون لعقود تحت وطأة الاعتماد شبه الكامل على الواردات لتأمين غذائهم الأساسي مع إنتاج محلي محتشم في بعض المنتجات،  هذا الواقع مرير ليس فقط اقتصاديًّا بل وصحيًّا، حيث يضاعف الضغوط على القطاع الصحي الذي يعاني أصلًا، ويثير الشكوك حول جودة وسلامة الأغذية المتداولة بسبب ضعف الرقابة على المبيدات الممنوعة وسوء التخزين.

لقد كان غياب الرؤية الوطنيةوغياب الاستقرار السياسي والإداريفيما بعد ، هو المحفز الرئيسي لهذه الأزمة. فعلى عكس الدول التي تعمل وفق رؤى موحدة أفرز الانقسام السياسي مؤسسات ضعيفة وغير منسقة، مما حوّل الأمن الغذائي من أولوية إلى فوضى يفتقر فيها المزارع إلى التوجيه وتغيب فيها الرقابة الفعالة.

تُظهر لنا التجارب الإقليمية المجاورة أن الاستقرار السياسي والأمني هو المكون الغائب والأهم لنجاح أي استراتيجية.

فعندما ننظر إلى دولة قطر كمثال حيث استطاعت تحقيق اكتفاء شبه كامل في منتجات أساسية مثل الألبان والدواجن والخضروات الطازجة، على الرغم من محدودية مواردها الزراعية والمائية.

لقد كان السر في نجاحها هو الاستثمار الجريء في الزراعة الذكية والتقنيات الحديثة مدعومًا باستراتيجية واضحة للتخزين وتنوع مصادر الاستيراد. هذا النجاح يبرهن أن الابتكار والتخطيط قادران على تعويض نقص الموارد التقليدية.

في المقابل استغلت مصر رغم تحدياتها السكانية والمناخية الهائلة ورغم أن مواردها الطبيعية أكبر نسبيًّا فمن خلال مشروعات استصلاح الأراضي الكبرى ودعم المزارعين وتطوير نظم الري، حققت أرض الكنانة اكتفاءً شبه ذاتي في محاصيل حيوية كالأرز والسكر، وعززت إنتاجها من القمح بشكل كبير في السنوات الأخيرة .

هذا التقدم يعكس استثمارًا فعالًا في الموارد الطبيعية والبشرية، وهو ما يتطلب خططًا حكومية مستدامة لا تهزها التغييرات السياسية المتواترة كما يحدث في ليبيا.

وعلى الرغم من كل الظروف تمتلك بلادنا  وخاصة في جنوبها ثروات زراعية وحيوانية يمكن أن تشكل نقطة تحول. فمع ظهور بوادر استقرار نسبي في بعض المناطق، بدأت جهود لحصر آلاف الدوائر الزراعية المنتجة للحبوب والخضروات، وإعادة تأهيل المشاريع المهملة في محاولة لإحياء الإنتاج المحلي.

هذه الجهود يجب أن تُستغل لدعم زراعة المحاصيل الموفرة للمياه كـالزيتون والعنب، وإحياء مراكز البحوث الزراعية لدعم المزارعين بالإرشاد العلمي.

من ناحية أخرى حاولت حكومة الوحدة الوطنية ومن خلال المجلس الوطني للتطوير الاقتصادي اعتماد الاستراتيجية الوطنية للأمن الغذائي (2025-2035)، وهي إطار نظري طموح بأكثر من 170 مشروعًا يهدف إلى تقليل الاعتماد على الواردات عبر نهج يغطي أربعة محاور رئيسية هي(الزراعة وتعزيز الثروة الحيوانية والنقل والتخزين).

لكن هذه الرؤية الشاملة تصطدم بجدار الواقع: ضعف البنية المؤسسية اللازمة لتنفيذ هذا الكم من المشاريع، وغياب التمويل المستدام الذي لا يتأثر بتقلبات أسعار النفط والأهم من ذلك الفجوة التقنية والعلمية التي لم تُدمج بشكل كافٍ لضمان استدامة الإنتاج في بيئة ذات موارد مائية شحيحة.

إن الأمن الغذائي ليس مجرد تحدي أمام الحكومات الحالية أو المقبلة بل هو قضية سيادة وطنية وصحة عامة. ويجب أن يكون هناك خطوات حاسمة في هذا الاتجاه مثل إنشاء مجلس وطني دائم للأمن الغذائي يتبع أعلى سلطة تنفيذية لضمان التنسيق وربط البحث العلمي بالإنتاج لتبني حلول مستدامة.

إن إنقاذ القطاع الزراعي يتطلب توحيد الإرادة السياسية حول مصلحة الوطن والمواطن، ووضع هذا الملف فوق كل اعتبار، أسوة بالتجارب الإقليمية التي أثبتت أن الابتكار والتخطيط في ظل الاستقرار طبعًا هما مفتاح النجاح، إلى ذلكم الحين يبقى أمْننا الغذائي من غيره اتجاه.

_______________

مقالات مشابهة