
أنقرة تعتبر التحشيدات العسكرية تهديدًا مباشرًا لمنظومة المصالح التي عملت على بنائها منذ سنوات، بدءًا من التعاون الأمني ووصولًا إلى الاتفاقات الاستراتيجية في مجالات الطاقة والتنقيب البحري.
في ظل تصاعد مؤشرات التوتر الأمني في العاصمة الليبية طرابلس ومحيطها، أطلقت تركيا تحرّكًا دبلوماسيًا وأمنيًا سريعًا لاحتواء الوضع، مدفوعة بمخاوف من أن تؤدي أي مواجهات عسكرية محتملة إلى تقويض نفوذها السياسي والاقتصادي في المنطقة الغربية، التي تمثل قلب الحضور التركي في ليبيا.
ووصل خلال اليومين الماضيين وفد رفيع من جهاز الاستخبارات التركي، بقيادة نائب رئيس الجهاز جمال الدين تشاليك، في زيارة غير معلنة مسبقًا، شملت لقاءات موسعة مع عدد من الفاعلين السياسيين والأمنيين، في مقدمتهم لجنة فض النزاع وقيادة جهاز الردع. وركّزت المحادثات على سبل ضبط الوضع الميداني، وتفادي الانزلاق إلى صدام مسلح قد يخرج عن السيطرة.
وتنظر أنقرة بعين القلق إلى التحشيدات العسكرية المتزايدة داخل طرابلس وامتدادها إلى مناطق أخرى في الغرب الليبي، وهو ما تعتبره تهديدًا مباشرًا لمنظومة المصالح التي عملت على بنائها منذ سنوات، بدءًا من التعاون الأمني ووصولًا إلى الاتفاقات الاستراتيجية في مجالات الطاقة والتنقيب البحري.
تأتي هذه التحركات في وقت تشهد فيه طرابلس توترًا غير مسبوق بين مجموعات مسلحة متنافسة، بعضها على صلة مباشرة بجهات تدعمها أنقرة. وتخشى تركيا من أن يتحول هذا التوتر إلى صراع داخلي يُفقدها القدرة على التأثير في القرار الليبي، ويفتح الباب أمام أطراف إقليمية منافسة لتوسيع نفوذها.
وتكمن أهمية التحرك التركي في الطابع الاستخباراتي البارز للزيارة، ما يؤشر إلى أن أنقرة لا تتابع الأزمة فقط من زاوية دبلوماسية، بل تعتبرها مسألة أمن قومي تتطلب تدخلًا مباشرًا وسريعًا على الأرض.
ويرى مراقبون أن تركيا تدرك أن استقرار العاصمة الليبية هو مفتاح الحفاظ على مكتسباتها في ليبيا، خصوصًا في غرب البلاد، حيث ترتبط باتفاقيات ومذكرات تفاهم تمتد من المجالات الأمنية إلى الاقتصادية، وعلى رأسها مذكرات التفاهم حول التنقيب عن الغاز والنفط في شرق المتوسط والسواحل الليبية، والتي وُقّعت خلال السنوات الماضية مع حكومة الوحدة الوطنية وقبلها حكومة الوفاق.
ومن بين أهم أولويات أنقرة في ليبيا، تأمين استمرارية مشاريعها الاقتصادية الكبرى، وعلى رأسها التعاون في استكشاف وتطوير الحقول النفطية والغازية، إضافة إلى مشاريع إعادة الإعمار والبنية التحتية التي تشرف عليها شركات تركية كبرى.
وقد أبرمت تركيا، في أعقاب تدخلها العسكري في 2020، عددًا من الاتفاقيات مع طرابلس تمنحها امتيازات واسعة في البحر الليبي، خاصة في ما يتعلق بترسيم الحدود البحرية والتنقيب في مناطق متنازع عليها إقليميًا. ويُنظر إلى هذه الاتفاقات بوصفها ركيزة استراتيجية لتعزيز الدور التركي في شرق المتوسط، ومنافسة تحالفات إقليمية تضم اليونان وقبرص ومصر.
غير أن تصاعد التوترات الأمنية يهدد هذه المكاسب، لا سيما أن مناطق النفوذ التركي في غرب ليبيا تعاني من هشاشة أمنية، بفعل تنافس جماعات مسلحة متعددة الولاءات، بعضها لا يتردد في تحدي قرارات الحكومة المركزية.
التحرك التركي الأخير يُفهم أيضًا في سياق رسائل موجهة إلى أطراف إقليمية وغربية تتابع المشهد الليبي عن كثب، في وقت تحاول فيه دول مثل إيطاليا وفرنسا ومصر إعادة تنشيط نفوذها في ليبيا، مستغلة حالة الانقسام القائمة.
وفي الوقت نفسه، تحاول أنقرة إعادة ضبط التوازن بين الأطراف الليبية المتحالفة معها، وسط مؤشرات على تآكل الانسجام داخل المعسكر الداعم لحكومة طرابلس، وهو ما يهدد بتفكك الكتلة السياسية والعسكرية التي تعتمد عليها تركيا لضمان مصالحها.
وبحسب مصادر ليبية مطلعة، فإن زيارة الوفد التركي حملت “رسالة حاسمة” إلى القيادات المحلية، مفادها أن أي انزلاق إلى المواجهة المسلحة سيكون له ثمن سياسي واقتصادي باهظ، ليس فقط على ليبيا، بل أيضًا على الدول الداعمة لها.
وتخشى أنقرة أن تؤدي الفوضى إلى تعطيل مشاريعها الحيوية، وتهديد خطوط الإمداد اللوجستي لقواتها المتمركزة في ليبيا، خصوصًا في قاعدة معيتيقة الجوية، التي تعد أحد أبرز معاقل النفوذ التركي العسكري.
وفي ظل هذا المشهد المعقّد، يبدو أن أنقرة تجد نفسها مضطرة للتدخل بقوة لاحتواء التوتر، ليس بدافع الحفاظ على الأمن فحسب، بل دفاعًا عن استثمارات استراتيجية، ونفوذ إقليمي بات على المحك.
************
لقاء المخابرات المصرية ــ التركية… ليبيا أولاً

لم تصل العلاقات المصرية–التركية إلى تفاهم شامل في الملف الليبي، حيث تشهد تنافساً بين البلدين. زيارة إبراهيم قالن إلى بنغازي تشير إلى تحول في الاستراتيجية التركية، مما قد يفتح المجال لتنسيق مصري–تركي.
تعددت مواضيع محادثات رئيس المخابرات العامة المصرية، اللواء حسن رشاد مع نظيره التركي إبراهيم قالن مؤخرا في القاهرة، عن ليبيا والسودان وغزة.
في صدارة المباحثات، اتفق الجانبان على ضرورة إنهاء الحرب على غزة في أقرب وقت ممكن، استناداً إلى مقترح الوسطاء، بما يعكس توافقاً على أن استمرار النزيف في القطاع يهدد الاستقرار الإقليمي برمّته.
في السياق، رأى الباحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية عمار فايد في حديثٍ لـ“العربي الجديد“، أن مصر لديها مخاوف حقيقية من سيناريو فرض التهجير على الفلسطينيين، وهو ما يفسر تحركاتها الدبلوماسية الأخيرة لمحاولة بناء موقف إقليمي مضاد للضغوط الإسرائيلية، لا سيما البيان المشترك مع السعودية، الصادر في 21 أغسطس/آب الماضي.
واعتبر أن الدعم التركي لهذا الموقف يمثل أهمية بالغة للقاهرة، خصوصاً أن أنقرة معنية أيضاً بردع النهج العدواني الإسرائيلي الذي يصطدم بمصالحها في سورية.
ليبيا ملف تنافسي
لكن فايد شدد في الوقت نفسه على أن الملف الليبي ما زال محل تنافس، وأن العلاقات الثنائية بين القاهرة وأنقرة لم تتطور بعد إلى مستوى تفاهم إقليمي شامل. وأوضح أن مصر منزعجة من التطورات الأخيرة في ليبيا، وعلى رأسها توجه البرلمان الليبي للتصديق على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع تركيا، والتقارب مع قائد قوات شرق ليبيا اللواء حفتر ودعم تعيين نجله نائباً له ورئيساً لأركان الجيش.
وكان قالن قد زار بنغازي قبل أيام من زيارته إلى القاهرة، واجتمع باللواء المتقاعد خليفة حفتر، في خطوة غير مسبوقة أظهرت مرونة متبادلة بين أنقرة وحفتر. كما عقد وفد عسكري تركي رفيع لقاءً مع صدام حفتر، نجل اللواء المتقاعد، في إطار زيارة الفرقاطة التركية “TCG قنالي أدا” لبنغازي.
واعتُبرت هذه التحركات مؤشراً على تحول في الاستراتيجية التركية تجاه الشرق الليبي، بما يفتح المجال أمام مصر وتركيا للتنسيق في الملف الليبي، الذي طالما كان أحد أبرز ساحات التوتر بينهما. ويطرح مراقبون تساؤلات عما إذا كان هذا التقارب سيفتح الباب أمام تفاهمات ثلاثية غير معلنة تشمل القاهرة وأنقرة وحفتر.
في السياق، قال شريّف عبد الله، رئيس المركز الليبي للدراسات الأمنية والاستراتيجية، لـ“العربي الجديد“، إن زيارة قالن إلى شرق ليبيا جاءت في إطار سلسلة من الزيارات، الهادفة إلى تفعيل العلاقات بين أنقرة والقيادة المسيطرة على الشرق والجنوب وأجزاء واسعة من ليبيا.
وشدّد على أن “البعد الاستراتيجي لتركيا في ليبيا يرتبط أساساً بالمنطقة الشرقية، وهو الامتداد الطبيعي للاتفاقية الخاصة بترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا“. وأوضح عبد الله أن اختيار شخصية بحجم إبراهيم قالن، الذي شغل موقع المستشار المقرّب من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قبل توليه رئاسة الاستخبارات، يعكس أهمية الزيارة، ويرتبط بمحاولة أنقرة الضغط لتمرير اتفاقية ترسيم الحدود عبر البرلمان الليبي في طبرق، الخاضع للمنظومة السياسية التابعة لحفتر.
____________