أحمد الخميسي

عند مدخل شارع الرشيد وسط العاصمة الليبية طرابلس، لا تخطئ العين مشهد السيارات المصطفة بجانب الأرصفة، حيث يقف شباب يحملون مفاتيح مركباتهم ويعرضون خدمات نقل غير نظامية على المارة.
هذا المشهد اليومي لم يعد استثناء، بل تحول إلى علامة فارقة على واقع اقتصادي متصدع أجبر شرائح واسعة من الليبيين على اللجوء إلى ما يُعرف بـ“وظائف الظل“.
عادل الغرياني، موظف حكومي في قطاع الزراعة، يجسد هذه الظاهرة. يقول لـ“العربي الجديد“: “أعمل بعد الدوام سائقاً غير نظامي منذ ست سنوات. راتبي 2300 دينار (الدولار يعادل 7.5 دنانير) لا يكفي لإعالة أسرة من ثمانية أشخاص. الأسعار في ارتفاع مستمر، ولم يعد الراتب الحكومي يغطي أبسط الاحتياجات“. ويوضح أن الأجرة تحدد مسبقاً مع الزبون وفقاً للمسافة ونوع الخدمة، مع ترك هامش للتفاوض.
نوري القمودي، معلم تربية، اختار أن يمتهن البيع المتجول في أوقات فراغه. يقول: “أبيع أحياناً التمور وأحياناً الخبز البلدي. الحياة أصبحت شاقة إلى درجة لم تعد تحتمل، حتى بعد الزيادة الأخيرة في الرواتب“.
ويضيف لـ“العربي الجديد“: “مع بلوغ سعر الدولار نحو ثمانية دنانير (في السوق السوداء)، أصبح دخل المعلم لا يساوي شيئاً تقريباً“.
أما عز الدين المجدوب، خريج كلية الهندسة قسم هندسة النفط، فلم يجد فرصة عمل في القطاع الذي تخصص فيه. يقول: “انتظرت طويلاً التعيين في الشركات النفطية، لكن دون جدوى. اليوم أبيع الشاي على كورنيش طرابلس، وهو يدر دخلاً معقولاً، خصوصاً في فصل الصيف“، قبل أن يبتسم ابتسامة مترددة تعكس الرضا المؤقت والخذلان في آن واحد.
يؤكد الاقتصادي محمد الشيباني أن انتشار الوظائف غير الرسمية يحمل انعكاسات مزدوجة. فمن جهة، يوفر متنفساً للأسر التي تعاني تآكل الرواتب وارتفاع تكاليف المعيشة، لكنه من جهة أخرى يفاقم التحديات المرتبطة بالتهرب الضريبي، وغياب الرقابة الصحية والمالية، وتنامي الفجوة بين الاقتصاد الرسمي وغير الرسمي.
وأوضح خلال حديثه لـ“العربي الجديد” أن الاقتصاد الموازي في ليبيا يمثل أكثر من ثلث النشاط الاقتصادي الفعلي، في ظل انكماش فرص العمل الرسمية، وتراجع قدرة الدولة على ضبط الأسواق أو فرض الرقابة. ويشير إلى أن الأوضاع السياسية غير المستقرة، وتوقف مشاريع التنمية، عمقا هذا الواقع.
منذ سنوات، يشهد سوق العمل الليبي تحولاً عميقاً مع تراجع قدرة الدولة على استيعاب الخريجين، وارتفاع معدلات التضخم والبطالة.
ومع غياب سياسات فاعلة للتوظيف، تمدد الاقتصاد الموازي ليشمل مهناً تراوح بين قيادة سيارات الأجرة غير النظامية، وبيع الخبز والشاي في الشوارع، والعمل باعة متجولين للمواد الغذائية أو الموسمية.
لا توجد إحصائيات رسمية حديثة حول حجم اقتصاد الظل في ليبيا.
وكشف محافظ مصرف ليبيا المركزي السابق، الصديق الكبير، لـ“العربي الجديد” عام 2018 أن اقتصاد الظل (الاقتصاد غير الرسمي) بات يستحوذ على 60% من الأنشطة المختلفة، بسبب غياب مؤسسات الدولة.
وتزايد اقتصاد الظل خلال منتصف التسعينيات ثم تفاقم عقب اندلاع الثورة في 2011.
وتمثل في ظهور أسواق موازية للسوق الرسمي، كالمحال التجارية المخالفة وغير المرخصة التي لا تدفع ضرائب ولا فواتير كهرباء، والباعة المتجولين في الأسواق الشعبية، وسيارات الأجرة، والمزارعين الذين ينتجون السلع في مزارعهم الخاصة ولا يتم حسابها ضمن الناتج المحلي، بالإضافة إلى الصيد الجائر وتهريب المحروقات.
وفي ظل غياب حلول جذرية وتباطؤ الإصلاحات الاقتصادية، يواصل اقتصاد الظل التمدد في ليبيا ليصبح جزءاً أساسياً من معيشة المواطنين. غير أن اتساعه يهدد بتقويض أسس الدولة، إذ يعمق الفجوة بين الاقتصاد الرسمي والموازي، ويجعل الاستقرار المالي مرهوناً بمعالجة عاجلة لهذه الظاهرة.
____________
