جمال جوهر
رست البارجة الحربية الأميركية «ماونت ويتني» عدة ساعات في ميناء الشعّاب بالعاصمة طرابلس، قبل أن تنطلق إلى بنغازي مخلّفة حالة من الاعتراض والغضب بين أطياف ليبية، كان من بينها أنصار نظام القذافي.
والبارجة التي أتت ليبيا، الأحد، بعد توقفها في تونس، حملت وفداً عسكرياً رفيعاً ضم قائد الأسطول السادس للبحرية الأميركية «جي تي أندرسون»، والمبعوث الأميركي الخاص إلى ليبيا، ريتشارد نورلاند، والقائم بالأعمال في سفارة الولايات المتحدة لدى ليبيا، جيريمي برنت.
وأثارت زيارة البارجة المفاجئة أسئلة عديدة في أذهان كثير من الليبيين حول المغزى وراء إبحارها إلى البلاد، واستعاد بعضهم «ذكريات سيئة» لمشاركة الأسطول السادس في ضربات عسكرية سابقة على بلدهم.
ولخَّصت السفارة الأميركية مهمة الوفد العسكري الذي جاء محمولاً على البارجة بأنها تتمثل في مناقشة سبل التعاون الأمني بين البلدين، وتعزيز الأمن الإقليمي، والتأكيد على دعم وحدة ليبيا. لكن سياسيين عديدين لم تُشبعهم مثل هذه الإفادة المقتضبة وذهبوا إلى تفسيرات أبعد، بعضها يتعلق بـ«كرامة» ليبيا و«سيادتها».
الناتو والقذافي
وتوالت انتقادات أنصار القذافي على قدوم «ماونت ويتني»، وعدُّوها زيارة «استفزازية» تُذكّرهم بتاريخ «الأسطول السادس» في قصف ليبيا من قبل، بالإضافة إلى مشاركة بوارج حلف شمال الأطلسي (الناتو) في إسقاط نظام القذافي عام 2011.
ويقول الكاتب والأكاديمي الليبي الموالي للنظام السابق، مصطفى الفيتوري، في حديث إلى «الشرق الأوسط»: «ما زلنا نتذكر استفزازات الأسطول السادس في ليبيا».
ويرى الفيتوري أن هذه البارجة كانت المركز الرئيسي لقيادة العمليات ضد بلده عام 2011، وطالب العسكريين الليبيين الذين استقبلوا من أسماهم بـ«الغزاة» بالاعتذار لمواطنيهم الذين قال إنه سقط منهم العديد من المدنيين قتلى وجرحى خلال القصف.
ومع مغادرة البارجة إلى بنغازي، توالت أيضاً التحليلات لمحاولة فك شفرات رسائلها، فذهب البعض إلى أنها تحمل «ترغيباً وترهيباً» فيما يتعلق بضرورة المسارعة في الوصول لحل سياسي يفضي إلى دعم جهود توحيد الجيش المنقسم، فضلاً عن التأكيد على دور أميركي «أكثر فاعلية» في مواجهة تصاعد النفوذ الروسي في البلاد.
وقال الدكتور موسى إبراهيم، عضو فريق «المصالحة الوطنية» الممثل لسيف القذافي، إن الأسطول السادس «ليس جهازاً خيرياً؛ فهو الذي قصف ليبيا في 1986، وقتل مواطنين مدنيين في طرابلس وبنغازي».
ويرى إبراهيم أن أميركا «لم تأتِ لحماية ليبيا»؛ لكنها جاءت «لتسيطر، وتراقب، وتعيد رسم المشهد بما يخدم مصالحها» ومصالح إسرائيل.
وقال: «هذا الأسطول شارك في العدوان على ليبيا عام 2011، ودمّر بنيتنا التحتية، ودَعَم الميليشيات، وأسقط الدولة».
واستند إبراهيم في غضبه إلى دور الأسطول السادس في دعم إسرائيل ومساندته «في جرائمها بغزة وفلسطين»، بحسب قوله، إلى جانب توفير «غطاء عسكري» لها في البحر المتوسط.
مشروع «موحد»
لكن أمام من يربط بين قدوم الوفد الأميركي على متن بارجة حربية وما يحمله هذا من رسائل في مواجهة تصاعد النفوذ الروسي في ليبيا، هناك من يشير إلى الحراك الدبلوماسي الأميركي المتسارع، فضلاً عن الحديث عن «مبادرة أميركية قريبة».
وسبق أن صرَّح سعد بولس، مستشار الرئيس الأميركي دونالد ترمب للشؤون الأفريقية والشرق أوسطية، لوسائل إعلام عربية، بأن الإدارة الأميركية تعمل على «مشروع موحد» يشمل جميع الفرقاء.
وشوهد على ظهر البارجة، وهي في الشعّاب، زمرة من سلطات طرابلس العسكرية والأمنية والسياسية، ضمت رئيس الأركان العامة الفريق أول محمد الحداد، وعضو المجلس الرئاسي عبد الله اللافي، والمكلَّف بتسيير وزارة الخارجية الطاهر الباعور، وإبراهيم الدبيبة مستشار الأمن القومي لرئيس حكومة «الوحدة» عبد الحميد الدبيبة.
وفسّر كثيرون من مناوئي سلطات طرابلس هذا الحضور اللافت من قياداتها على البارجة على أنه استدعاء أميركي «لسلطات الدولة»، ما دفع البعض لتوجيه انتقادات لاذعة لحكومة الدبيبة، فيما يلتقي الوفد الأميركي لاحقاً قائد «الجيش الوطني» المشير خليفة حفتر.
رسم خريطة ليبيا
ومع تصاعد نبرة «انتهاك السيادة» الليبية، قال علي رحومة السباعي، عضو مجلس النواب الليبي، في منشور عبر حسابه على «فيسبوك»: «الحاكم الفعلي أرسى مراكبه في بلدنا»، وزاد: «هذه حقيقة ونقطة بداية للسير نحو استعادة سيادة ليبيا».
وأضاف: «كل الواجهات السياسية التي ظهرت في بلادنا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى الآن هي أدوات للتحكم بيد الحاكم الفعلي»؛ وانتهى إلى قول: «لو أدرك الليبيون بيد من سيادة بلدهم، لكانت نقطة انطلاق لتوحيد جهودهم والنهوض بليبيا».
ويرى متابعون أن واشنطن وموسكو تكثفان من وجودهما وتحركاتهما على الساحة الليبية سعياً لحلحلة الأزمة السياسية المعقّدة، لكن هذه المساعي تصطدم بمخاوف بعض من يرونها مجرد «حرب باردة على توسيع النفوذ».
وقد اتسعت الساحة الليبية، منذ رحيل النظام السابق، لكثير من الأطراف والأقطاب الدولية المتنافرة والمتعارضة سياسياً، وبات جميعها – بما في ذلك أميركا وروسيا – يعمل، بحسب متابعين، على «رسم خريطة ليبيا على نحو يخدم مصالحها الاستراتيجية».
وتعزز موسكو من وجودها المدعوم من حفتر، خاصة بعد سقوط نظام بشار الأسد في سوريا. وتشير بعض التقارير إلى أن روسيا نقلت قواتٍ وعتاداً عسكرياً إلى مناطق في شرق ليبيا وجنوبها، ما يزيد من منسوب القلق محلياً ودولياً.
وكانت إدارة الرئيس الأميركي السابق، جو بايدن، قد أطلقت «الاستراتيجية العشرية»، وهي خطة قيل حينها إنها تهدف إلى منع الصراع وتعزيز الاستقرار في دول عدة، من بينها ليبيا، لكنها إلى الآن لم ترَ النور، على الأقل في ليبيا.
_____________