علي العسبلي
لقاء نجلاء المنقوش، وزيرة الخارجية السابقة في حكومة الوحدة الوطنية، مؤخرًا على إحدى منصات قناة الجزيرة، أعاد إلى السطح قضية أثارت الجدل في الرأي العام الليبي – إذا كان هناك رأي عام – العام الماضي.
رغم أنني لم أتابع هذا اللقاء، إلا أنني تابعت بعض المقتطفات منه خصوصا أنه جاء بعد قرابة عام من هروب واختفاء المنقوش إثر لقائها مع وزير خارجية الكيان الصهيوني في روما في أغسطس 2023.
هذا اللقاء، الذي سُرب للإعلام، أشعل موجة من الغضب الشعبي، واضطر المنقوش إلى مغادرة البلاد وسط اتهامات بالخيانة والتطبيع.
المثير للسخرية أن هذه الحملة استهدفت المنقوش وحدها، بينما بقي رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة بمنأى عن المساءلة، رغم مسؤوليته المباشرة عن وزرائه.
في الطرف الآخر، انتهزت حكومة حفتر في شرق ليبيا هذه الواقعة ضد حكومة الدبيبة. حيث أُطلقت آلة إعلامية ضخمة في المناطق التي يسيطر عليها حفتر لتوظيف القضية الفلسطينية كورقة متاجرة وضغط سياسي.
لكن هذه الحملة تخللتها مفارقة عجيبة؛ فذات الأطراف التي شجبت لقاء المنقوش ـ وتحديدًا عائلة حفتر وحكومته الموازية ـ تغاضت تمامًا عن تقارير صحفية موثوقة أشارت إلى أن صدام حفتر، نجل خليفة حفتر، زار تل أبيب في نوفمبر 2021 للتنسيق مع الإسرائيليين، بحسب جريدة «هآرتس» الإسرائيلية.
ولم تكن هذه الزيارة هي الحالة الوحيدة؛ فقد ظهر عبد الهادي الحويج، وزير خارجية حكومة شرق ليبيا، في لقاءات مع مسؤولين إسرائيليين، دون أن تثير تلك الوقائع أي استنكار يُذكر في الأوساط الإعلامية المؤيدة لحفتر.
هذا الصمت يطرح تساؤلات جادة حول ازدواجية المعايير في التعامل مع القضية الفلسطينية.
منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة في أكتوبر 2023، والذي لا يزال مستمرًا منذ أكثر من 450 يومًا وأسفر عن آلاف الضحايا من المدنيين، كانت حكومة حفتر في شرق ليبيا غائبة تمامًا عن المشهد، دون أي موقف أو حتى تصريح يدين هذه الإبادة الجماعية.
في المقابل، حاولت حكومة الدبيبة في الغرب تبرئة نفسها من هذا الصمت المريب، لكنها اكتفت بإطلاق سيل من التصريحات المتكررة التي لا معنى لها ولم تقدم شيئًا ملموسًا لدعم القضية الفلسطينية. وكأن المواقف أصبحت مجرد بروتوكول يتم استحضاره للظهور الإعلامي دون أي خطوات فعلية على الأرض.
الانقسام الذي طال جميع مناحي شبه الدولة في ليبيا، والذي كرسته عائلتا الدبيبة وحفتر، حول كل شيء إلى مادة للتوظيف السياسي.
حفتر، الذي يسيطر مع أبنائه الخمسة الظاهرين في الصورة على مفاصل الحياة في شرق البلاد، بما في ذلك العسكرية والاقتصادية وحتى الرياضية، وحكومة عائلة الدبيبة وميليشياتها وهيمنتها على مقدرات الدولة والفساد المنظم الذي تمتد جذوره منذ عهد النظام السابق، كلا الطرفين، شرقًا وغربًا، يوظف القضية الفلسطينية لأغراضه السياسية، بينما يغيب أي التزام حقيقي بدعم الشعب الفلسطيني.
هذا التناقض يجعل من «المقاومة حسب المزاج» وصفًا دقيقًا للحالة الليبية: مقاومة تُستحضر عند الحاجة، وتُنسى عندما تصبح عبئًا.
الحديث عن دعم القضية الفلسطينية يفقد مصداقيته عندما نُغفل ما يحدث داخل ليبيا نفسها. هذا البلد المنكوب الذي أصبح مرتعًا للقوات الأجنبية التي تحتل القواعد العسكرية شرقًا وغربًا؛ من روسيا وتركيا إلى الإمارات ومصر.
كيف يمكن أن ندعم المقاومة في فلسطين ونحن نعجز عن مقاومة الاحتلال في بلدنا؟ كيف نطالب بالحرية للآخرين ونحن نعيش في ظل الظلم والفساد والقمع؟ المقاومة الحقيقية تبدأ من الداخل.
يجب أن نواجه الاحتلال في أرضنا أولًا. يجب أن نقاوم الفساد الذي نخر مؤسسات الدولة، والقمع الذي طال كل صوت حر، والخطف والاعتقالات والقتل الذي أصبح واقعًا يوميًا، من لا يستطيع أن يقاوم لنفسه، كيف سيقاوم للآخرين؟
لن ننصر القضية الفلسطينية ما دمنا لم ننصر أنفسنا. ما دمنا لم نزل الظلم والظالمين، ومن يتاجر بها ويستغلها لأغراض سياسية. طالما شاركنا في المتاجرة بها وبدماء الآلاف من الضحايا.
الوقت قد حان لإعادة النظر في أولوياتنا؛ فالقضية الفلسطينية تستحق أن تكون رمزًا لنضال الإنسانية، لكن يجب أن نبدأ بتحرير أنفسنا من قيودنا أولًا.
بهذا فقط يمكننا أن ندعم المقاومة بشكل حقيقي، بدلًا من أن تتحول إلى مجرد عصا في يد الساسة يلوحون بها عند الحاجة.
__________________