الحبيب الأسود

أي حديث تطلقه ستيفاني خوري عن توحيد المؤسسة العسكرية في ليبيا لا معنى له طالما أن هناك قوة في الشرق تساندها روسيا وأخرى في الغرب تدور في الفلك الأميركي. لم تأت نائبة الممثل الخاص للأمين العام، والقائمة بأعمال رئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، ستيفاني خوري، بالجديد عندما قالت إن ليبيا تواجه تحديات جديدة،

لكن اللافت أنها ذهبت إلى شرق البلاد لتقف أمام النصب التذكاري لبطل المقاومة الليبية عمر المختار الذي أكدت أنه يرمز لروح الشجاعة والمقاومة لدى الأمة الليبية، وأضافت أن “ليبيا تواجه تحديات جديدة، يجدر على الليبيين استحضار رؤية عمر المختار القائمة على الوحدة للحفاظ على الاستقلال والسيادة التي ناضل من أجلهما”.

ما لا تعرفه خوري، أن عمر المختار، عاش ومات دون أن يسمع اسم ليبيا الذي لم يظهر إلا بعد ثلاثة أعوام من إعدامه من قبل السلطات الاستعمارية، ففي 3 ديسمبر من عام 1934، صدر من العاصمة الإيطالية روما المرسوم الملكي التشريعي رقم 2012 بأن تحمل المستعمرة الواقعة في شمال أفريقيا رسميا اسم ليبيا، لتصبح بذلك مستعمرة واحدة مقرّها الرئيسي طرابلس، توحّد من الناحية الإدارية إقليمي طرابلس وبرقة اللذين كانا يعتبران سابقا مفرزتين إيطاليتين منفردتين.

وبحسب ذاكرة التاريخ، فإن إيتالو بالبو، حاكم طرابلس وبرقة الجديد وصل في يناير 1934، لتبدأ متغيرات جديدة تتكشف بخصوص موضوع إدارة المستعمرة، مثل قضايا التعاون والتكامل بين السكان المحليين والمستوطنين الإيطاليين، وبينهم وبين “الوطن الأمّ إيطاليا”. وذلك بعد عامين من القمع الذي تمّ به سحق المقاومة الليبية في برقة على يد غراتسياني في عام 1932، ولاسيما بعد أن تم في 16 سبتمبر 1931 إعدام عمر المختار.

عموما يمكن فهم المرجعية الثقافية التي تنطلق منها خوري باعتبارها تتحدر من أصول عربية لبنانية، وهي تدرك مدى اعتزاز الليبيين برموزهم التاريخية، وخاصة عمر المختار الذي لعبت السينما دورا في ترويج صورته على نطاق واسع، ولكن مجرد العودة لتذكّر شيخ الشهداء يطرح الكثير من أسئلة التعامل مع الواقع الذي تعرفه البلاد منذ العام 2011، ولاسيما في ظل التدخل الخارجي المقيت من قبل القوى الكبرى المتصارعة من أجل بسط نفوذها على البلد الثري ذي المساحة الشاسعة والموقع الإستراتيجي المهم على الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط وفي شمال أفريقيا وتشكّل مكانه ومكانته كجسر للتواصل بين مشرق العرب ومغربهم وفي اتجاه الصحراء الكبرى ومنطقة الساحل مرورا إلى وسط القارة السمراء.

خلال الأيام الماضية، بدأت خوري تتحرك على نطاق واسع في ليبيا، وكانت لها لقاءات مهمة مع الفرقاء الأساسيين سواء في طرابلس أو بنغازي، وانفتحت على القوى السياسية والحزبية ومنظمات المجتمع المدني، وبدأت في محاورة النساء والشباب، لكن تركيزها الأساسي كان حول الملف الأمني، وهو الذي تحاورت بشأنه مع قيادة المجلس الرئاسي ورئيس الحكومة المنتهية ولايتها عبدالحميد الدبيبة، ومع رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، وخاصة مع القائد العام للجيش الوطني الجنرال خليفة حفتر باعتباره شخصية محورية ليس على الصعيد العسكري الميداني فحسب، وإنما على الصعيد السياسي كذلك، وهو الذي يمثّل اليوم رمزية الرجل القوي في مناطق نفوذ قواته وخاصة في المنطقة الشرقية المعروفة تاريخيا ببرقة ظهرت كإمارة عندما أعلن إدريس السنوسي استقلالها بدستور مستقل من جانب واحد في 1 مارس 1949 بدعم من المملكة المتحدة. لتصبح الدولة المستقلة الثامنة بين البلدان العربية آنذاك.

تدرك خوري أن غرب ليبيا لا يزال خاضعا لسيطرة الميليشيات المسلحة التي تسعى الولايات المتحدة إلى دمجها في المنظومة العسكرية والأمنية الرسمية، كما هناك الحضور التركي القوي، والدور الإيطالي المهم، والتأثير البريطاني الواضح للعيان، مع تطلع واشنطن لتكريس نفوذها وإلى تعويض ما فاتها من فرص بعد عام 2011، لاسيما أن الموضوع بات مرتبطا بتنافس حاد مع موسكو التي تتمدد بقوة في شرق ليبيا مرورا في اتجاه الجنوب ثم التفرع إلى دول الساحل والصحراء كمالي والنيجر وبوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى مع بدايات التمركز في تشاد والسودان في سياق خطة يستغل من خلالها الروس عمق التحولات التي بدأت تتشكل في القارة وخاصة من حيث العلاقة السابقة مع المستعمرين والعقلية الغربية التي سبق وأن تعاملت مع الأفارقة بعنجهية القرار والممارسة استعبادا واستعمارا ولا تزال تتعامل بمنطق التعالي الذي لم يعد يجد قبولا لدى الأجيال الجديدة المنتفضة من أجل إحياء هوياتها وتأمين ثرواتها المنهوبة.

عندما تلتفت خوري إلى شرق ليبيا، تجد أمامها دولة جديدة قد تأسست بالفعل، لديها جغرافيا واسعة وجيش وبرلمان وثروات طائلة، ولديها علاقات خارجية تتجسد من خلالها تحالفاتها الإقليمية والدولية، وهناك سلطة عسكرية بالدرجة الأولى يمثلها الجنرال حفتر بصفته القائد العام للقوات المسلحة وأبناؤه الذين يتقاسمون الوظائف الرئيسية عسكريا ومدنيا، مع سلطات تشريعية وتنفيذية صورية، وقد يجوز القول إن سلطة حفتر اليوم في مناطق نفوذه تجاوزت سلطات الملك إدريس عندما كان أميرا على برقة وحتى ملكا على ليبيا.

ولذلك سعى لعدم تكرار أخطاء معمر القذافي فاتجه للتحالف مع الروس ليضمن وقوفهم إلى جانبه سواء على الأرض أو في المنتظم الأممي، وهو أمر أوقع العواصم الغربية في حيص بيص، ودفع بواشنطن للضغط على المبعوث السابق السنغالي عبدالله باتيلي للاستقالة وتكليف ستيفاني خوري بإدارة شؤون البعثة بما يساعدها على استيضاح الصورة وتفكيك الواقع رغم أن التجارب أكدت أن الأميركان عموما لا يتعلمون ولا يتعظون.

أي حديث تطلقه خوري عن توحيد المؤسسة العسكرية في ليبيا لا معنى له، طالما أن هناك قوة في الشرق تسندها روسيا وأخرى في الغرب تدور في الفلك الأميركي، وطالما أن هناك تناقضات في المواقف والرؤى والثوابت والتوجهات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والإعلامية والفقهية، وفي الخطط التكتيكية والإستراتيجية والتحالفات الإقليمية والدولية، وكأننا أمام دولتين ونظامين وجيشين رغم أن الشعب واحد وغير قابل للتقسيم.

في اليوم الموالي لإعدام عمر المختار، ظهرت قصيدة الرثاء التي كتبها أمير الشعراء أحمد شوقي، والتي اختتمها بمخاطبة شعب برقة آنذاك ولكنها تصلح اليوم لمخاطبة الشعب الليبي بكامله:

ذَهَبَ الزَعيمُ وَأَنتَ باقٍ خالِدٌ فَاِنقُد رِجالَكَ وَاِختَرِ الزُعَماءَ

وَأَرِح شُيوخَكَ مِن تَكاليفِ الوَغى وَاِحمِل عَلى فِتيانِكَ الأَعباءَ

_________________

مقالات مشابهة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *