جمعة بوكليب
المدن أنواع. صغيرة أو كبيرة. ساحلية أو جبلية. مضيافة تحتفي بالغريب، أو بخيلة تغلق أبوابها في وجوه القادمين. وكلها، على اختلافها، تتميز بأنها مراكز حضرية.
والعواصم، على وجه الخصوص، مقصد وقبلة وملتقى لكافة أنواع الناس لقضاء حوائجهم أو للإقامة وكسب الرزق، أو لاكتساب علم وثقافة.
بعض المدن عتيقة، تمر في شوارعها متسكعاً، فتشم عبق التاريخ. لذلك، اكتسبت الكثير منها صفات. وأطلقت عليها أسماء.
القاهرة، مثلاً، تسمى مدينة الألف مئذنة، أو قاهرة المعز.
دمشق اشتهرت باسم الفيحاء.
وطرابلس الغرب عُرفت بوصف عروس البحر الأبيض المتوسط.
الذين ولدوا وكبروا في شوارع وحارات طرابلس، يتذكرون، من دون شك، كيف كان يُضرب المثل بنظافتها، وأطلقوا عليها قديماً اسم، المدينة البيضاء، لبياض مبانيها وصفو سمائها أغلب أيام العام.
لكنّ الزمن تغيَّر، ومعه، ككل الأشياء، تغيَّرت تلك المدينة/ العروس/البيضاء، حتى جاء وقت تحولت فيه شوارعها إلى مكبّات قمامة.
التاريخ ومؤرخوه وكتبه وسجلاته ووثائقه كلها مجتمعة تتفق وتؤكد أن طرابلس الغرب لم تكن يوماً ملكاً لقبيلة، أو عشيرة، أو عائلة.
هي عاصمة ليبيا، وأبوابها كانت دائماً مشرعة لاستقبال من يقصدها، ما لم يكن غازياً.
القبلية سمة ملحوظة في الجغرافيا والتاريخ الليبيين. والقبيلة أساس اجتماعي ترسخ منذ قديم الزمن في البلاد.
الباحث التونسي الراحل المنصف وناس جعل القبلية واحدة من أربع سِمات في الشخصية الليبية. ومع ذلك، ورغماً عن ذلك، لم تجد القبلية لها موطئ قدم في طرابلس.
والطرابلسيون، تاريخياً، هم، ومن دون تفريق، كل من قصد طرابلس، من مختلف أنحاء ليبيا أو خارجها، وارتضاها مقراً ومستقراً وموطناً.
خلال النظام السابق، تمكنت القبلية من التسلل إلى طرابلس، عبر ثغرة حفرت ليلاً في الجدار الاجتماعي، بهدف خدمة أغراض وأهداف سياسية. ومن خلالها، عمل النظام العسكري السابق على تفتيت وحدة المدينة، وتمزيق نسيجها الاجتماعي، بتبخيس الثقافة المدينية الطرابلسية، وإحلالها بما صار يعرف باسم ثقافة «الخيمة».
وزحفت تلك الثقافة على طرابلس، بما يشبه الغزو، وتمددت مدعومة بجوقة إعلامية ضخمة. وبدعم وتمويل، علني وعلى كافة الصُعد، وبتوجيه مباشر من رأس النظام والذي حرص شخصياً على أن يظهر إعلامياً جالساً في الخيمة، أينما كان وحيثما حلَّ.
وكان يحرص على نقلها معه في رحلاته الخارجية.
وتلا ذلك قيام النظام بالتشجيع على تأسيس تجمعات قبلية في المدينة، أطلق عليها اسم روابط. رابطة لكل قبيلة في طرابلس. حتى تحولت المدينة إلى مقرات لروابط قبلية، تعمل كمراكز تجمُّع لأبناء القبائل المختلفة، كي لا يذوبوا في ثقافة المدينة، ويحافظون على تقاليدهم وإرثهم القبلي، ويكونون، في الوقت ذاته، عيوناً للنظام، ومكبرات صوت بشرية تردد وتنشر في الشوارع والميادين ما يُطلب منها.
تلك الروابط، وتلك الثقافة تلاشت، بفضل من الله، بسقوط النظام. وبدأت طرابلس تستعيد صحوتها وألفها الحضري، وتنفض عن نفسها ما علق بها من رواسب النظام السابق، وتتخلص من قاموسه اللغوي، وتستعيد لسانها.
وتيقظ حسُّ شعبي طرابلسي مديني، سرعان ما تمدد وانتشر.
واستعادت طرابلس هويتها الحضرية، وممارسة دورها في أن تكون عاصمة كل الليبيين، والإناء الذي تذوب فيه القبلية.
في الآونة الأخيرة، ومن ثغرة جديدة في الجدار، أطلت القبلية برأسها الأفعوي من جديد في طرابلس تحديداً، وتحت رعاية جديدة، وبأسماء ما أنزل الله بها من سلطان.
وما حدث باختصار، هو أن الطرابلسيين خصوصاً، والليبيين عموماً، استيقظوا، في الأيام القليلة الماضية، وفوجئوا، من خلال وسائط التواصل الاجتماعي، بظهور كيان غريب، أطلق مؤسسوه عليه اسم «اتحاد القبائل الليبية»، يترأسه شخص غير معروف، وأصدر قراراً بصفته الاعتبارية التي منحها لنفسه، بتعيين رئيس لفرع طرابلس المركز، يتولى تنفيذ مهام وأهداف الاتحاد القبلي، وتحقيق المصلحة الوطنية، ويساعده أعضاء آخرون.
القرار أحدث عاصفة من الغضب والرفض، في مواقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت. وقوبل بسخرية وتهكم شديدين.
السؤال الذي يطرح نفسه:
ما المقصود من جر القبلية إلى مدينة حضرية، وعاصمة لكل ليبيا؟
ومن يقف وراء الفكرة، في وقت تحاول فيه القوى الوطنية الليبية لم الشمل ولئم الجروح ورتق الفتوق، التي نشأت خلال السنوات الماضية، نتيجة الصراعات على السلطة ونهب الثروة؟
وما أعتقده وأراه، هو أن الكيان الجديد، وُلدَ ليكون أداة ووسيلة لأطماع أصحابه. وكان أولى أن يُسمى اتحاد المطامع. ولا علاقة له بالقبائل الليبية ولا بالأهداف الوطنية.
الهدف المقصود منه، هو الحصول لأصحابه على قطعة من كعكة تتناهبها الأيدي منذ أعوام. ونظرًا لفقدان أصحابه القدرة والوسيلة على المنافسة والمزاحمة على المغنم، ظهروا بهذة الفكرة، وبأمل أن تحقق لهم أغراضهم.
لكنّهم فوجئوا بشدة رد الفعل، فتراجعوا مؤقتاً، تكتيكياً، حتى تمر العاصفة. لكنهم، سيعيدون الكرّة ثانية وثالثة.
_____________