أربعة دروس مستقاة من تاريخ ليبيا الحديث

بعد استقالة تاسع مبعوث أممي إلى ليبيا دون تحقيق أي انفراجة في الأزمة الليبية يرى مراقبون أن المبعوث الأممي الجديد أمام دروس قيمة لأسباب فشل من سبقوه يجب عليه تلافيها. وتبدو فرصة المبعوث الأممي الجديد أفضل ممن سبقه إذا ما تم تغيير إستراتيجيات العمل.

 استقال مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا عبدالله باتيلي بعد 18 شهرا قضاها في منصبه، تاركا وراءه عملية سياسية تحتضر، فيما يرى محللون أنه من أجل كسر الجمود السياسي في ليبيا، يجب على الأمم المتحدة أن تكون على استعداد لاتباع إستراتيجية أكثر جرأة، على الرغم من مخاطر الفشل.

ويبدو أن معظم صناع السياسات الدوليين يعتقدون أن المنافسين الليبيين يجب أن يبادروا إلى التوصل إلى اتفاق لكسر الجمود الحالي. وترى الأمم المتحدة أن التقدم غير ممكن دون موافقة أصحاب النفوذ الرئيسيين وداعميهم الدوليين.

ومن ناحية أخرى، يعتقد العديد من الجهات الفاعلة الليبية أن الفرصة الواقعية الوحيدة لكسر الوضع الراهن هي من خلال عملية بتفويض دولي. ففي نهاية المطاف، تم إنشاء حكومتي “الوحدة” الأخيرتين من خلال وساطة الأمم المتحدة – في 2015 – 2016 و2020 – 2021 على التوالي – في حين أن محاولة تشكيل حكومة من خلال المؤسسات الليبية وحدها لم تؤد إلا إلى إنتاج حكومة موازية وإعادة فرض التقسيم الإداري.

ويرى تيم إيتون وهو زميل أبحاث أول في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في تقرير نشره معهد تشاتام هاوس أنه على الرغم من التحديات المتزايدة التي تواجهها الأمم المتحدة، فإن الممثل الخاص المقبل للأمم المتحدة سوف يظل في وضع أفضل لتأمين هذه الغاية.

ومنذ ما يقرب من 18 شهراً، كان باتيلي يحتاج إلى تعلم أربعة دروس بسرعة من تاريخ ليبيا الحديث: ينبغي له أن يتجنب الانجرار إلى مناقشة الاتفاقات المؤقتة؛ وينبغي له أن يعترف بأن المجموعة الحالية من القادة المؤسسيين لن تقدم حلاً؛ وسيحتاج إلى إدارة الحالات الخارجية بعناية؛ وأخيرا، أن الاتفاق بين مجموعة صغيرة من الأفراد لن يترجم إلى عملية مستدامة.

ولسوء الحظ، بدا أن باتيلي استنتج أنه ليس لديه خيار سوى الاعتماد على القادة المؤسسيين الحاليين، ما أنتج في النهاية عملية سياسية تتمحور حول جمع خمسة قادة رئيسيين: رئيس وزراء حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة، ورئيس المجلس الأعلى للدولة محمد تكالا، ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح، ورئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، وقائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر.

وبعد أن كان يأمل في البداية في الانتقال مباشرة إلى الانتخابات تأثر باتيلي بالحجة القائلة بضرورة وجود حكومة مؤقتة لأنه لا يمكن تأمين الانتخابات في ظل حكومة الوحدة الوطنية. لكن اقتراحه كان ميتا عند وصوله.

ورفض صالح ضم حكومة الوحدة الوطنية، في حين أصر حفتر، حسبما ورد، على ضم حكومة الاستقرار الوطني بقيادة أسامة حماد. وقال الدبيبة إنه سيكون سعيدا بالمشاركة ولكن على أساس أن الحكومة الجديدة لن يتم تعيينها إلا عن طريق الانتخابات.

وفي نهاية المطاف، رأى هؤلاء القادة أن الوضع الراهن أفضل من عدم اليقين بشأن التكوين الجديد الذي قد لا يتمكنون من السيطرة عليه. وبالتالي، لم يكن أمامهم سوى طريق للمضي قدماً يمكن من خلاله ضمان مصالحهم.

وفي ملاحظاته الأخيرة أمام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، انتقد باتيلي قادة ليبيا “لمواصلتهم وضع شروط مسبقة لمشاركتهم في الحوار كوسيلة للحفاظ على الوضع الراهن”، ولكن من خلال التركيز فقط على الاتفاق بين هذه النخب الخمس، سمح بذلك لاحتكارهم للعملية.

وتم تحقيق التقدم السياسي في الفترتين 2015 – 2016 و 2020 – 2021 عندما توسعت مجموعة الليبيين التي تم التشاور معها إلى ما هو أبعد من شاغلي المناصب الحاليين.

كما أهمل باتيلي معالجة القضايا الاقتصادية بشكل مباشر، وهو جانب حاسم من الصراع. وفي الوقت نفسه، استمرت المناقشات حول قطاع الأمن في غياب إطار عمل ذي معنى، كما واجهت الجهود المبذولة لتطوير عملية المصالحة الوطنية صعوبات. وظلت هذه المناقشات منعزلة، على الرغم من طبيعتها المترابطة.

وكل هذا يخلق موقفًا صعبًا للغاية بالنسبة إلى الممثل الخاص التالي، أيًا كان. وسيتطلب النجاح في هذا الدور اتباع نهج أكثر نشاطًا واستعدادًا للتوسط بشكل استباقي بدلاً من الاجتماع مع الأطراف الليبية فقط.

ويجب على المبعوث الجديد أن يسعى إلى معالجة الوضع بسرعة، ولن يكون لديه متسع من الوقت لبناء عملية جديدة ببطء.

وستظل الأسئلة العملية المألوفة مطروحة على الطاولة. أولاً، سوف تعود قضايا التسلسل إلى الظهور. فهل يجب أن يكون التركيز على الانتخابات أولاً لاستبدال طاقم القادة الحاليين وتوفير الشرعية؟ أم هل تنبغي صياغة عملية أطول تسعى إلى إعادة توحيد المؤسسات في ظل حكومة مؤقتة والانتقال إلى الانتخابات على مدى فترة أطول؟ وكيف يمكن وضع الترتيبات الدستورية والاتفاق عليها؟ ثانياً، من الذي يجب أن يوافق على هذه التغييرات؟ وكيف تمكن هيكلة العملية لتمكين جمهور من الناخبين من أجل التغيير دون أن يقوم أصحاب السلطة بإفساد العملية؟.

ورغم أن هذه التساؤلات تظل ذات أهمية، فإنها لا تستطيع الاستمرار في احتكار وقت الأمم المتحدة، واستمر ميزان القوى داخل ليبيا في التحول بينما تم تجميد العملية السياسية. وعلى الرغم من عدم اندلاع القتال بشكل كبير منذ عام 2020، إلا أن ثمن الاستقرار الهش في ليبيا كان واسع النطاق وساعد الفساد المتزايد في ترسيخ النخبة الحاكمة.

وفي الأشهر الأخيرة، بدأ ثمن هذا الفساد يضرب جيوب المواطنين الليبيين بقوة مع ارتفاع الأسعار بسرعة.

وتواصل الجماعات المسلحة صراعها من أجل السلطة والنفوذ، وتزداد قوتها في المجتمع الليبي. وفي الوقت نفسه، فإن عدم قدرة الدولة على الاستجابة بفعالية لفيضانات درنة يكشف عن مستوى منخفض من قدرة الدولة بشكل خطير. وكلما طال أمد هذا الوضع، أصبح من الصعب التوصل إلى اتفاق.

وعلى هذه الخلفية، يتفاعل اللاعبون الدوليون الرئيسيون مثل تركيا مع أصحاب المصلحة الليبيين دون الالتزام برأس مال دبلوماسي لتأمين اتفاق سياسي. ويستخدم آخرون، مثل روسيا، المشهد الممزق لصالحهم.

وما لم تعر الأمم المتحدة الاهتمام وتتخذ الإجراءات اللازمة لمعالجة هذه الديناميكيات، فمن الصعب تصور نجاح أي عملية سياسيةومن المؤكد أن معالجة الفساد المتصاعد في مالية الدولة هو شرط مسبق لإحراز تقدم ملموس في المجال السياسي.

وفي حين قد يزعم البعض أن هذه التحديات تتجاوز قدرة بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، سيكون من الأفضل للأمم المتحدة أن تتّبع عملية جريئة تهدد بالفشل بدلاً من تكرار نفس النهج الذي يركز على النخبة. ومن المؤكد أن هذا النهج سيواصل انحدار ليبيا في أيدي الفاسدين الأقوياء على نحو متزايد.

______________

مقالات مشابهة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *