عدنان زماني
كثيرا ما نسمع مَن يقول إن الشعوب العربية لم تصل بعد إلى مرحلة تسمح لها بممارسة الديمقراطية كأداة للحكم وتبادل الأدوار السياسية، وأصحاب هذا المعتقد يذهبون إلى أن النظام الديمقراطي نظام متطور يصلح لشعوب تمتلك ثقافة ومستوى مرتفع من الوعي كالغربيين واليابانيين مثلا، ولا تصلح لشعوب متدنية كالعرب والمسلمين.
فما مدى صحة هذا القول وهل حقا إن العرب غير مستعدين في المرحلة الراهنة إلى خوض التجربة الديمقراطية، أم إن هذه المقولة خاطئة ومرفوضة، وهي مقولة يروّج لها عادة المستفيدون من الحكومات المستبدة في العالم العربي، ومن تربطهم بالمؤسسات الحاكمة صلات ووشائج، أو إنهم من العوام الذين يكونون في كثير من الأحيان قوّة المستبد وقُوته كما يقول الكواكبي.
وقبل البدء لا بد أن نقف عند هذه الحقيقة وهي إن لكل شعب ثقافة وواقع يميزانه عن غيره من الشعوب ويجعلان حياته وآليات تنظيمها تختلف عن الآخرين، ولا شك كذلك إن العرب اليوم فيهم المتخلف والمتطرف والكافر بالديمقراطية؛ لكن ما هو أكثر بعدا عن الشك هو إن الشعوب العربية بشكل عام هي شعوب مستعدة للديمقراطية، وقد لا نذهب بعيدا إذا قلنا إنها أكثر شعوب العالم ظمأ وتقبلا للديمقراطية بعد أن جرّبت أنواعا شتى من الحكومات التي يتسم معظمها بالقمع والاستبداد.
كما يجب أن لا يكون هناك خلاف على أن حدوث بعض العنف وأعمال التخريب التي رافقت الاحتجاجات الشعبية العربية – وهي قليلة جدا إذا ما قُورنت بغيرها من الثورات في التاريخ الحديث – لا يعد دليلا على تخلف العرب أو عدم استعدادهم للممارسة الديمقراطية؛ ذلك أن التظاهرات في كل العالم قد ترافقها أعمال عنف لأسباب كثيرة لا نريد الخوض فيها هنا، وليس بعيدا عنا ما تشهده فرنسا هذه الأيام –وهي منبت الديمقراطية في العصر الحديث– من أعمال عنف وتخريب جراء التظاهرات ضد الحكومة.
وقد قدّرَ رئيس بلدية باريس، الأضرار التي تسببت فيها أعمال العنف في العاصمة الفرنسية وحدها بين 3 و4 ملايين يورو، فكم هي الخسائر في عموم فرنسا طوال أربع أسابيع من عمر تظاهرات أصحاب السترات الصفراء؟ وعلى ذلك، هل يحق لنا القول إن الشعب الفرنسي غير مؤهل للممارسة حق التظاهر كون هذه التظاهرات انتهت بخسائر وأعمال عنف؟
وإذن فلماذا يردد البعض مقولة إن العرب لم يصلوا بعد إلى مرحلة النضوج والوعي التي تتطلبه العملية الديمقراطية وقواعدها؟ وحجتهم في ذلك هي إن التظاهرات والاحتجاجات التي رافقت ما عرف بثورات الربيع العربي شهدت أعمال عنف وتخريب في بعض محطاتها.
للإجابة على هذا السؤال نشير بداية إلى حقيقة اجتماعية وتاريخية ثابتة وهي إن نسبة البسطاء والعوام تفوق نسبة النخب والمثقفين في المجتمعات البشرية على مر العصور والأزمان، وتكون النخب والطبقات المثقفة هي الفئة الأقل عددا ولكنها الأكثر تأثيرا في تغيير مسار المجتمعات.
وقد وردت هناك إشارات عابرة في القرآن الكريم تؤكد هذه الحقيقة كقوله تعالى: (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) أو قوله في سورة الروم: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) وكذلك: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)، فهذه كلها إشارات وبراهين على أن العصور البشرية في كل مراحلها يكون فيها الوعي دون الجهل والطيش والحماقة أكثر من المعرفة والحكمة. وطبعا هذه القاعدة تسري على عصرنا الحاضر رغم ما نشاهده من تطورات علمية هائلة في جميع مجالات الحياة.
وبالعودة إلى واقع عالمنا العربي نجد إن الشعوب العربية هي كذلك داخلة في هذه القاعدة العامة وإن معظمها تغلب عليه صفة عدم المبالاة تجاه الآخر والتركيز على مصالحه الملموسة، وبالتالي إهمال الإصلاح المجتمعي والتفكير بالمشاركة السياسية مادام لم يجد من يحثه ويشجعه على المشاركة السياسية والاجتماعية، ويمهد لها المناخ والأجواء اللازمة لذلك.
وعلى ذلك يأتي هنا دور النخب كقائد وموّجه للشعب في مطالبه وحقوقه، وبالنظر إلى النخب العربية والفئة المثقفة واستحضارا للسؤال التي طُرح في المقال المتمثل بأسباب مهاجمة بعض النخب العربية للمسار الديمقراطي واعتماده وسيلة للحكومات.
نقول إن هذه النخب لا تخرج عن حالتين اثنين، وهما:
أولا: إما أن تكون هذه النخب في الحقيقة غير مثقفة ولا تعد نخبة في الحقيقة، وإنما حصلت على هذه الصفة من باب الصدفة، أو من خلال ممارسة نوع من التزييف والخداع الاجتماعي مما جعلها تبدو من النخب؛ ولذا قد عادت إلى أصلها في أول مواجهة حقيقية لإثبات جدارتهم بقيادة المجتمع وإرشاده عندما انضم كثير منهم إلى جانب الأنظمة القمعية والاستبدادية، وهو ما يسقط صفة النخبوية عنهم.
وقد ثبتت هذه الحالة في مصر بوضوح حيث انقلب كثير مما كان يعرف بالنخبة في المجتمع المصري على التجربة الديمقراطية الأولى، واصطفوا إلى جانب العسكر على حساب الديمقراطية والحرية والشعارات التي كانوا ينادون بها، وقد فقدت النخبة في مصر مصداقيتها بشكل سريع وأصبحت لا حول لها ولا قوة، والمصداقية هي شرط أساسي لكي تستمر هذه النخب بالحضور في الساحة وبين الجماهير.
ثانيا: إن هذه النخب كانت نخبة في الحقيقة وإنها قد أخطأت –وأدركت خطأها بعد فوات الأوان– عندما اصطفت إلى جانب الحكام المستبدين ظنا منها إن الاستبداد الذي كان موجودا في فترة ما قبل ثورات الربيع العربي لم يعد بإمكانه أن يعود ويستمر، وبالتالي فإنها توهمت القدرةَ على العودة إلى الواجهة من جديد بعد إزاحة خصومها الذين وصلوا إلى الحكم عبر الانتخابات، وقد وجدت هذه النخبة نفسها في موقف صعب يتمثل في خيارين لا ثالث لهما وهما: إما الاستمرار في الولاء وقبول أمر الواقع والرضى بعودة النظام القديم واستبداده كما فعل كثير منهم، أو الرفض والرجوع عن الخطأ غير المحسوب وهو ما قد يكلفهم سنين من الحبس والتهميش والإقصاء الذي يمارسه نظام الدولة العميقة بعد عودته إلى الحكم من جديد بفضل الانقلاب والثورة المضادة.
ونختم بالقول إن الرأي القائل بعدم جاهزية العرب لممارسة الديمقراطية وتفضيل الحكومات العسكرية والأنظمة الحالية على النظام الديمقراطي هو رأي مجانب للصواب وبعيد عن الحقيقة، وإن من يتبناه قد يكون مستفيدا من الأوضاع الحالية، أو إنه من المغفلين وصنيعة الأنظمة الاستبدادية.
كما إن الأكثرية بين الناس في مختلف العصور والأزمان تكون بسيطة وغير واعية سياسيا واجتماعيا، وإن النخب المثقفة هي التي تلعب دورا محوريا في قيادة المجتمع والتأثير عليه سلبا أو إيجابا؛ بحيث قد يقودون أبناء المجتمع إلى المطالبة بالحقوق والحريات في حال أحسنوا القيادة والإرشاد، كما قد يسيرون بالمجتمع إلى الخراب والدمار إذا ما قصّروا في مسؤولياتهم ولم يغلّبوا المصالح العامة على مصالحهم الشخصية وخلافاتهم الحزبية.
______________