رشيد خشانة
مع تفاقم الأزمة السياسية في ليبيا، وسعي بعض أطرافها إلى التهرب من استحقاق الانتخابات، مباشرة أو مُداورة، يتعرض الأمن الاستراتيجي لليبيا لتهديدات كبرى، بعد تسجيل ارتفاع قياسي في تدفق المهاجرين غير النظاميين، خاصة من الجارتين الجنوبيتين، النيجر والسودان.
وعلى الرغم من تعثر المسار الذي اقترحه المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا عبد الله باتيلي، ما زال هذا الأخير يُردد على أسماع الليبيين، أن «الحل الوحيد، الذي بإمكانه جلب الأمن والازدهار لليبيا هو تشكيل حكومة جديدة موحدة، تلبية لآمال الليبيين».
لكن المخاوف في ازدياد في الداخل كما في الخارج، من عودة العنف واندلاع صراع عسكري من جديد. وكثيرا ما يُجند هؤلاء المهاجرون في صفوف الفريقين المتصارعين.
وعمليا بات شمال النيجر، هو المنطقة التي تعد معبرًا للمهاجرين من دول أفريقيا جنوب الصحراء نحو ليبيا والجزائر. وهم يحلمون بالوصول إلى سواحل أوروبا في «زوارق الموت» انطلاقا من الأراضي التونسية أو الليبية.
ولم تُجد نفعا زيارات رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني إلى كل من تونس وليبيا، في تلجيم تدفق المهاجرين، خصوصا بعدما رفضت كل دول شمال أفريقيا دور الحارس للسواحل الإيطالية الجنوبية. وأفاد تقرير أممي أن موجات الهجرة من النيجر في اتجاه ليبيا، ارتفعت بنسبة 50 في المئة، منذ كانون الثاني/يناير الماضي. ولوحظ أن هذا الارتفاع أتى مباشرة بعد إلغاء المجلس العسكري في نيامي، قانون تجريم تهريب الأشخاص عبر الحدود. وهذا يعني أن المجلس العسكري الحاكم في النيجر ألقى بالقنبلة الموقوتة، المتمثلة في الهجرة غير النظامية، في أكف الليبيين لكي تتخلص من العبء الاجتماعي والسياسي والديمغرافي لموجات الهجرة.
وارتفع مستوى تدفق المهاجرين غير النظاميين على ليبيا والجزائر الحدوديتين بشكل كبير، منذ أن سن العسكريون في نيامي تدابير جديدة للانتقام من الأوروبيين، الذين فرضوا عليهم عقوبات بعد الانقلاب الأخير على حكم الرئيس المنتخب محمد بازوم في تموز/يوليو الماضي. ويتمثل أبرز التدابير بإلغاء قانون تجريم تهريب الأشخاص عبر الحدود. وبرر العسكر إلغاءهم القانون سالف الذكر، زاعمين أن سنه تم «تحت تأثير قوى خارجية» وأنه «لم يأخذ في الحسبان مصالح النيجر ومواطنيها».
وأيا كان الوضع، سيتعين على الحكومتين الليبيتين المتنافستين، اتخاذ إجراءات عاجلة لاحتواء التدفق القياسي للمهاجرين على مناطق الجنوب، حيث تكثر الجريمة المنظمة والتهريب وشبكات التجارة الموازية، وخصوصا تجارة المخدرات. في هذا السياق أفادت تقارير صحافية غربية أن الحياة عادت إلى مدينة أغاديس في شمال النيجر، التي تعتبر «بوابة الصحراء» وشوهدت عشرات الحافلات الصغيرة، العابرة للصحراء الكبرى، لأول مرة منذ إلغاء القانون الذي يجرم هذا النشاط، مثلما أسلفنا. ويقوم الرعايا النيجريون بهجرة توصف بأنها دائرية بين النيجر والدول المغاربية بحثًا عن فرص اقتصادية، على عكس المهاجرين من حملة الجنسيات الأخرى، الذين يتوجهون إلى حدود أوروبا الجنوبية.
مكافحة الفساد
في هذه الأثناء أطل ملف مكافحة الفساد برأسه مجددا، إذ أثبتت التحقيقات تورط رئيس مجلس إدارة «مصرف اليقين» ونائبه وسبعة من القائمين عليه، بتسهيل الكسب غير المشروع لـ49 شركة بقيمة تتجاوز الـ20 مليون دولار. لكن المُلاحظ أن عمليات مكافحة الفساد لم تشمل سوى صغار الموظفين، وسط التغاضي عن الحيتان الكبيرة. ولا تقتصر الحيتان الكبيرة على رجال الأعمال الفاسدين والمتنفذين من كبار المسؤولين في الأجهزة الإدارية ومؤسسات الدولة.
لا بل وألمح باتيلي في تصريحات أدلى بها أخيرا، إلى تورط رجال السياسة في الفساد، مؤكدا أنهم لا يريدون مغادرة مناصبهم للمحافظة على الامتيازات التي يتمتعون بها. كما جاء في إحاطته الدورية إلى مجلس الأمن، بشأن تطورات الأوضاع في ليبيا، كلامٌ غير مألوف من مسؤول أممي رفيع المستوى، إذ أكد باتيلي أن الأطراف الرئيسية في ليبيا، غير مستعدة لتسوية الأمور الخلافية، التي تحول دون إجراء الانتخابات.
أكثر من ذلك، انتقد باتيلي بشدة «تشبث قادة ليبيا بمناصبهم ومواقعهم» مؤكدا أنه «ليست هناك أية مؤسسة تتمتع بالشرعية في ليبيا». ولم يُجانب المبعوث الخاص الصواب، إذ أن ولاية مجلس النواب انتهت منذ العام 2014 وهو لا يستطيع بحكم الانسحابات والوفيات، أن يجمع أكثر من 130 نائبا من أعضائه، البالغ عددهم الإجمالي 200 نائب. كما أن «المجلس الأعلى للدولة» منتهي الصلاحية، هو أيضا منذ انتهاء دور «المؤتمر الوطني العام» أعلى مجلس استشاري للدولة، وفقا للإعلان الدستوري المُعدل، وبناء على اتفاق الصخيرات في 2015.
ولا يمكن اعتبار الجيش الذي شكله الضابط المتقاعد خليفة حفتر، مؤسسة عسكرية سيادية وشرعية، بالرغم من حصوله على تفويض من البرلمان، لأن هذا الجيش خاضع بالكامل لسلطة فردية وعائلية، تُحكم قبضتها على المنطقتين الشرقية والجنوبية. واستطرادا تآكلت شرعية حكومة الوحدة الوطنية، المُنبثقة من اجتماع خارج ليبيا (في جنيف) ضم 75 شخصية ليبية برعاية الأمم المتحدة.
ويُفترض أن القوى الأمنية المسيطرة على العاصمة والمنطقة الغربية، تخضع إلى حكومة الوحدة والمجلس الرئاسي، لكن نظريا فقط، لأن الكيانات المسلحة، التي تعمل تحت سلطة أمراء حرب، لا تعترف بالدولة، وتتقاسم مربعات النفوذ الأمني في ما بينها، بموافقة من الحكومة، التي تؤمن لها الرواتب شهريا.
لقد كان باتيلي أكثر وضوحا وصرامة في إحاطته الأخيرة، إذ أكد أن «اشتراط أي طرف البقاء في منصبه لم يعد مقبولا» معتبرا أن من شأن اعتماد هذا الشرط، أن يؤجج الصراع أو يشعل فتيل الحرب، الأمر الذي لم يعد مستبعدا في ليبيا اليوم على ما قال. ومن الواضح أن هذا التحذير المُبطن يستهدف رئيس حكومة الوحدة الدبيبة، الذي يأبى ترك كرسيه لحكومة تكنوقراط تشرف على العملية الانتخابية في كافة مساراتها. ويمكن أن يكون التحذير موجها أيضا إلى رئيس الحكومة الموازية أسامة حماد، الذي كان تغييبه من الطاولة المستديرة، استجابة لطلب ليبي وخارجي، بالرغم من ان حكومته نالت «الشرعية» من مجلس النواب.
الأخطر من ذلك، في التوليفة السياسية الراهنة، أن معارك تندلع من وقت إلى آخر، بين تلك الفصائل التي تمتلك أسلحة متوسطة وثقيلة، خارج الشرعية، مثل المعارك التي تفجرت أخيرا بين فصيلين مسلحين، في حي أبوسليم بضواحي العاصمة، وأدت إلى مقتل ما لا يقل عن عشرة أشخاص. وهنا يتساءل المراقبون عن دلالات الإعلان عن استعراض، أو إعادة انتشار، أو تحريك لفرق وكتائب عسكرية تابعة لقيادة حفتر، وسط مخاوف متزايدة من العودة إلى مربع السلاح والحرب. ومع أن وزير الداخلية المكلف بحكومة الوحدة الوطنية عماد الطرابلسي أكد تكليف فريق متخصص للتحقيق في واقعة أبوسليم، فإن الوعود التي أطلقها تبدو وسيلة لتطييب الخواطر لا أكثر.
الوزير يعلم
والغريب أنه قال إن جلب المتورطين سيتم عند الانتهاء من التحقيق. لكن كيف سيتيسر جلبهم طالما أنهم ما زالوا طلقاء وسيتوارون عن الأنظار بالتأكيد، متى ما قرر القضاء إدانتهم بارتكاب تلك الجريمة؟ أكثر من ذلك، قد يبدو التحقيق غير ذي أهمية، لأن الوزير يعرف من ارتكب الجرم، فقد أكد في مؤتمر صحافي أن «هناك من يثير الفتنة في المنطقة الغربية ويحرض على العنف». وتوعد هؤلاء، وهم بالضرورة فرقاء يعرفهم، بأن «الوزارة لن تتهاون مع أي محاولة لتقويض الاستقرار في العاصمة، وأنه لا مكان (في ليبيا) للديمقراطية المفرطة» حسب وصفه.
من هنا يبدو أن وزير الداخلية منزعجٌ من «الديمقراطية المفرطة» وهو مُصممٌ على إسكات أصوات «المُفرطين» بدل التخطيط لإجلاء الأسلحة المتوسطة والثقيلة من العاصمة والمدن الداخلية، مع مسلحيها وأمرائها. لكن هل ستلتزم الميليشيا التابعة لوزير الداخلية نفسه، بالجلاء عن العاصمة وباقي المدن مع سائر المنسحبين (إذا انسحبوا فعلا)؟ ويقود الطرابلسي ميليشيا «الأمن المركزي» قبل أن يُعينه الدبيبة على رأس أخطر وزارة في الحكومة.
وكان هذا التعيين في 2022 ردا لجميل الطرابلسي، بعدما وقف الأخير إلى جانب الدبيبة في الصراع الدامي مع غريمه فتحي باشاغا، لدى محاولة الأخير الدخول إلى طرابلس، وتسمية نفسه رئيسا لحكومة موازية، خاصة بعد حصوله على ثقة مجلس النواب. ومعروف أن الطرابلسي يقود ميليشيا «الأمن المركزي» التي تتخذ من جنوب غرب طرابلس مقرا دائما لها.
ومضى الطرابلسي مشيرا، بالتصريح لا بالتلميح، إلى أن بعض المسؤولين السابقين، الذين لم يُسمهم، يحاولون جر البلاد إلى الخراب، متوعدا بأن أي محاولة لتهديد الأمن في العاصمة ستواجه بالقوة، إضافة إلى كل من يحاول العبث بالأمن وتهريب الوقود بمنفذ رأس اجدير (الحدود الليبية التونسية) وفق قوله. ويحق التساؤل هنا، عن أي مسؤولين سابقين يتحدث الطرابلسي، هل هم السابقون على 2011 أي أنصار القذافي، أم السابقون الذين حكموا ليبيا بعد 17 شباط/فبراير 2011؟ مثل هذا الكلام يدل على ان السلطات الأمنية تعرف من اقترف مذبحة أبوسليم، فلماذا إهدار الوقت إذا؟
الطريف أن وزير الداخلية عدد أسماء التشكيلات المسلحة الرئيسة، وعددها ستٌ، مُعلنا أنه سيتم إخلاء العاصمة من جميع الفصائل المسلحة، كما وعد بإخلاء البوابات العسكرية في باقي المناطق. وهذا يُعتبر حُلم الليبيين، وخاصة الطرابلسيين، الذين سمعوا كثيرا مثل هذه الوعود، لكن الحكومات المتلاحقة لم توف بتعهداتها.
في أعقاب التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار بين جماعة «فجر ليبيا» وقوات «البنيان المرصوص» في 2020 كان مقررا أن يغادر المرتزقة ليبيا في غضون تسعين يوما. وأكد على هذا الاستحقاق جميع المتداخلين في الأزمة الليبية، خلال مؤتمر برلين في العام التالي، لكن مضت أربع سنوات، ولم يتزحزح أحد من موقعه، مثلما قال باتيلي لأعضاء مجلس الأمن. وطالما لم تعش ليبيا تجربة تدوير القيادات السياسية والاستماع إلى مشاغل الشباب، الذي لا يحلم إلا بشيء واحد هو الهجرة إلى الخارج، ستغدو الأوضاع أسوأ وتزيد الصورةُ قتامة.
________________