أسامة علي
يكشف التحقيق كيف تجبر مليشيا الجنرال المتقاعد خليفة حفتر المهاجرين غير النظاميين على العمل القسري بعد توقيفهم لفترات طويلة، قبل أن تسمح لهم بالمغادرة بعد استغلالهم دون أجر في أنشطة هيئة الاستثمار العسكري.
أنشطة هيئة الاستثمار العسكري.
– أُجبر الخمسيني السوري خالد مردم على العمل القسري لمدة ثمانية أشهر في تجديد وصيانة مقر إدارة البحث والتحري ببلدة قرنادة الواقعة في الجبل الأخضر شمال شرق ليبيا، والتابع للإدارة العامة للبحث الجنائي بوزارة الداخلية شرق البلاد، بعد اعتقاله في مارس/آذار 2021 من قبل عناصر في جهاز مكافحة الظواهر السلبية والهدامة التابع لمليشيا الجنرال المتقاعد خليفة حفتر.
وبعد 5 أيام من اعتقال خالد مع 13 مهاجرا غير نظامي في طبرق شمال شرق ليبيا، نقلوا على متن عربات مسلحة إلى بلدة قرنادة، ليُحتجزوا في مقر على واجهته لافتة تفيد بأنه تابع لإدارة البحث والتحري، كما يروي ابن أخيه حسام مردم، قائلا لـ“العربي الجديد” إن مسلحا بجهاز مكافحة الظواهر السلبية والهدامة سألهم ماذا يتقنون من مهن في مجال البناء، قبل أن يطلب منهم العمل في تجديد المقر، ومن لا يتقن مهنة معينة عليه نقل مواد البناء.
ويُنقل المهاجرون الذين يتقنون مهنا محددة ومن القادرين على القيام بالأعمال الشاقة إلى 3 مراكز إيواء غير رسمية شمال شرق ليبيا وهي “المقرون، الأبيار وبرسس” (لم تعد رسمية لأنها متوقفة وغير فاعلة على الورق)، بينما ينقل المهاجرون غير القادرين على العمل نتيجة المرض إلى مراكز إيواء رسمية تتبع جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية (تابع لحفتر).
كما يقول الناجي حدّوث، مساعد سابق لآمر فرع الإدارة العامة لأمن المنافذ البرية بوزارة الداخلية في الحكومة المؤقتة (عملت في شرق ليبيا خلال الأعوام من 2016 وحتى 2021). وتدير الكتيبة 20/20 التابعة للواء طارق بن زياد التي يقودها صدام حفتر، مركز المقرون. فيما يدير جهاز مكافحة الظواهر السلبية الذي يترأسه فرج اقعيم العبدلي، وكيل وزارة الداخلية بالحكومة المكلفة من مجلس النواب، مركزي الإبيار وبرسس، وفق تأكيد حدوث لـ“العربي الجديد“.
إجبار المهاجرين على العمل القسري
خلال الفترة من إبريل/ نيسان 2022 وحتى مارس الماضي أُودع 436 مهاجرا في مراكز الإيواء غير الرسمية (تابعة لمليشيات حفتر)، بينما أُودع 495 مهاجرا في المراكز الرسمية التابعة لجهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية، وفق السجلات التي اطلع عليها ضابط مناوب في مكتب البلاغات في مديرية أمن البيضاء التابع لوزارة الداخلية بحكومة شرق ليبيا (فضل عدم ذكر اسمه لأنه غير مخول بالحديث للإعلام)، قائلا لـ“العربي الجديد” إن المهاجرين غير النظامين الذين يتم نقلهم إلى مراكز الإيواء غير الرسمية لديهم قدرة على العمل وهم من السوريين والمصريين ومن جنسيات أفريقية أخرى.
ويجبر المهاجرون على العمل القسري في صيانة مقار عسكرية وأمنية وكذلك أنشطة النقل بهيئة الإمداد والتموين برئاسة الأركان العامة للجيش (مليشيا حفتر الفاعلة شرق البلاد)، وفق حدّوث، مؤكدا أن العبدلي، استخدم 400 مهاجر بشكل قسري ضمن صيانة مقر سجن الكويفية بضواحي مدينة بنغازي في مايو/أيار 2023.
إجبار 836 مهاجراً غير نظامي على العمل القسري
كما يُستغل المهاجرون في جمع الخردة من المناطق الزراعية والتي توجد فيها آليات ثقيلة ومعدات عاطلة ومتوقفة عن العمل بسبب توقف المشاريع الزراعية، حسب إفادة سعد كراده، مدير إدارة الفروع في جهاز الشرطة الزراعية التابع لوزارة الداخلية في حكومة الوفاق الوطني السابقة (غرب ليبيا)، مشيرا إلى أن هيئة الاستثمار العسكري، التي صدر قرار عن مجلس النواب بإنشائها في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2018 تدير مشاريع البنية التحتية الاقتصادية والتجارية والاستثمارية والصناعية والخدمية في مناطق سيطرة مليشيا حفتر.
ويرد صلاح العرفي، مدير مكتب الإعلام في قوة حماية المشاريع الزراعية التابعة لهيئة الاستثمار العسكري، على ما سبق بالنفي، قائلا لـ“العربي الجديد” لم يتم تخريد الآليات الثقيلة والمعدات المتوقفة عن العمل، ولم يُستخدم المهاجرون في المشاريع، ويضيف أن قوة حماية المشاريع الزراعية تمنع التعدي عليها أو التصرف غير القانوني بها.
بينما يؤكد كرادة لـ“العربي الجديد” أن الهيئة أشرفت على تفكيك المعدات في المشاريع الزراعية، بواسطة مهاجرين غير نظاميين من جنسيات أفريقية نُقلوا من مراكز إيواء ربيانة جنوب شرق ليبيا وأم الأرانب (شمال شرق) الخاضعة لسيطرة مليشيات حفتر (وهي مراكز متوقفة وغير فاعلة).
ويقول من خلال تجربته: “لدى وجودي في مدينة سبها جنوب غرب ليبيا في أكتوبر/تشرين الأول 2019 وردتني معلومات من مكتب الزراعة في بلدية وادي عتبة جنوب البلاد بأن قوة حماية المشاريع الزراعية أدخلت للمشروع سيارات على متنها مهاجرون لاستخدامهم في جمع مخلفات المعدات الزراعية الخارجة عن العمل“.
كيف يتم جلب المهاجرين إلى ليبيا؟
وجدت بعثة تقصي الحقائق التي أنشأها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في يونيو/حزيران 2020، للتحقيق في انتهاكات وتجاوزات حقوق الإنسان التي ترتكبها جميع الأطراف منذ بداية عام 2016، أن “سلطات الدولة والكيانات التابعة لها، بما في ذلك جهاز الردع لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة (غرب ليبيا)، والقوات المسلحة العربية الليبية (شرق ليبيا)، وجهاز الأمن الداخلي (ينشط في شرق وغرب البلاد)، وجهاز دعم الاستقرار (غرب)، بالإضافة إلى قياداتها، قد شاركت مرارا وتكرار في الانتهاكات والتجاوزات، ومنها تهريب المهاجرين المستضعفين واستعبادهم وعملهم القسري وسجنهم وابتزازهم والذي يدرّ عائدات كبيرة للأفراد والجماعات ومؤسسات الدولة، ويحفز على استمرار الانتهاكات“، بحسب ما رصدته الأمم المتحدة والمنشور على موقعها الإلكتروني في 27 مارس 2023.
ويدخل المهاجرون إلى البلاد تهريبا أو تحت مسمى عمالة وافدة، وفق تأكيد كل من حدّوث وأحمد عبد الحكيم حمزة، رئيس اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان (أهلية)، مؤكدا أن اللجنة قابلت مهاجرين غير نظاميين في مارس 2023 أعيدوا إلي ليبيا بعد إنقاذهم من الغرق بمعية خمسين مهاجرا خلال محاولتهم الذهاب إلى أوروبا في يونيو 2022، وأكدوا أنهم سلموا جميعا إلى مليشيا طارق بن زياد (موالية لحفتر)، التي احتجزتهم في أحد مقراتها قبل نقلهم للعمل القسري لمدة خمسة أشهر في تحميل وتفريغ معدات وآليات صناعية (تابعة لجهاز طارق بن زياد للخدمات والإنتاج) في بنغازي، فضلا عن استغلالهم في أعمال التنظيف، ضمن أنشطة الجهاز.
وتوصّل حمزة من خلال تقصيه للمعلومات إلى أن المليشيا التي كانت تشرف على أعمال هؤلاء المهاجرين هي 20/20 التابعة لكتيبة طارق بن زياد، والتي لها علاقة وطيدة بتهريب البشر والاتجار بهم، كما يقول لـ“العربي الجديد“، مضيفا أن منح هيئة الاستثمار العسكري موافقة أمنية تمكن مهاجرين من الدخول إلى ليبيا تحت غطاء العمالة يُعد أحد أشكال الاتجار بالبشر ويشجع على الهجرة غير الشرعية عبر ليبيا.
ويطعن حاتم المغربي، عضو المكتب القانوني بمجلس وزراء حكومة شرق ليبيا السابقة، في صحة ادعاءات هيئة الاستثمار العسكري بشأن منحها الموافقات الأمنية واستجلاب العمالة، لافتا إلى أن الهيئة تتكئ على الفقرة السادسة من المادة 12 من قرار إنشائها والتي نصت على استخدام بعض العناصر الأجنبية وليس استجلابها، مؤكدا لـ“العربي الجديد” أن استجلاب العمالة الأجنبية من مهام وزارة العمل والتأهيل.
وهو ما تؤكده مذكرة (رقم إشاري 189) موجهة من وزير وزارة العمل والتأهيل التابعة لحكومة الوحدة الوطنية علي العابد الرضا إلى رئيس هيئة الاستثمار العسكري في الثامن من يونيو 2021 أوضح فيها أن “الوزارة هي الجهة المخولة قانونا بمنح الموافقات المسبقة لاستجلاب العمالة الأجنبية وتنظيم إجراءات تعاقدهم ومتابعتهم داخل سوق العمل الليبي دون غيرها، وأبدت استغرابها من قيام هيئة الاستثمار العسكري بمنح الموافقات الأمنية التي لم ينص عليها قرار إنشاء الهيئة رقم 3 لسنة 2018 من مجلس النواب الليبي“.
وبالعودة للعرفي، تحفظ على قرار سابق لرئيس وزارة الحكومة المؤقتة السابقة، عبد الله الثني، في يونيو 2020، بشأن تعليماته لــ “جميع الوزارات والهيئات والمؤسسات والمصالح التابعة للدولة إيقاف العمل مع هيئة الاستثمار العسكري“، مبررا تحفظه في التعليق عليها بأنها مراسلة “قديمة“.
عائدات مالية كبيرة لمليشيات حفتر
يرتبط الحصول على الموافقة الأمنية لاستجلاب العمالة بشركات تنشط شرق ليبيا الذي تهيمن عليه هيئة الاستثمار العسكري، وعلى رأس تلك الشركات، التحالف الليبي، والتي يديرها رمزي الفاخري، كما يقول حدّوث، مستدلا على ذلك بصورة منشورة على صفحتها على موقع “فيسبوك“، ويبدو اسم الفاخري مقرونا باسم الشركة، التي نشرت في 18 ديسمبر/كانون الأول 2019 على صفحتها على “فيسبوك” قائمة موجهة من مدير مصلحة الطيران المدني في شرق ليبيا، عبد الحميد امحمد جيد الله البرعصي إلى شركة أجنحة الشام السورية (مدرجة ضمن العقوبات الأميركية) في 15 ديسمبر 2019، تضمنت “موافقة تحمل الرقم 6416، للسماح بدخول ليبيا لـ 14 مصريا قادمين عبر سورية على أن تكون الموافقة صالحة لمدة 90 يوما من تاريخ صدورها“، وتضمنت قائمة أخرى في ذات التاريخ “موافقة رقم 6417، على دخول 8 مصريين إلى البلاد من القادمين عبر سورية“.
وعادت الصفحة ذاتها في الثالث من فبراير/شباط 2020 فنشرت إعلانا موجها للمصريين الراغبين بالسفر إلى ليبيا، مفاده أن “السفر سيكون ترانزيت عبر مصر والإمارات ودمشق وبنغازي من خلال شركة طيران أجنحة الشام السورية مع الموافقة الأمنية الليبية من هيئة الاستثمار العسكري“.
وتهدف هيئة الاستثمار العسكري من خلال منح الموافقة الأمنية إلى جمع الأموال، إذ يدفع الوافد الأجنبي 500 دولار أميركي رسوم إذن دخول ليبيا، وفق حمزة. وحصل معد التحقيق على وصل صادر عن شركة التحالف الليبي لوافد مصري في 24 سبتمبر/ أيلول 2019، تضمن دفعه المبلغ المحدد، مقابل الموافقة الأمنية.
لكن الحاصلين على الموافقات الأمنية من هيئة الاستثمار العسكري معرضون للاعتقال من قبل المعنيين في حكومة الوحدة الوطنية المعترف بها دوليا في حال انتقالهم إلى غرب البلاد، لأن الهيئة تتجاوز اختصاصات وزارة الخارجية ومصلحة الجوازات والجنسية وشؤون الأجانب المختصة بإصدار التأشيرات وفق حدّوث، مؤكدا أن الوافدين الأجانب في هذه الحالة مهاجرون غير شرعيين بنظر السلطات.
لكن بعضهم يصر على المحاولة عبر ذات الطريق، كما فعل خالد مردم بعد إجباره على العمل القسري لستة أشهر، إذ سمح له بالمغادرة، واتجه من قرنادة إلى طبرق مرة ثانية، وهناك تواصل مع مهرب بشر، ليتمكن في النهاية من تحقيق حلمه والوصول إلى جزيرة لامبيدوزا الإيطالية في أكتوبر 2021، كما يقول ابن أخيه حسام.
_______________