سهاد الخضري
في سبتمبر/ أيلول الماضي، ضرب إعصار دانيال السواحل الجنوبية الشرقية للبحر المتوسط، متسببًا في كارثة بيئية وإنسانية عنيفة في درنة الليبية، مخلفًا آلافًا من الضحايا والمفقودين معظمهم من الليبيين وعدد غير قليل منهم من المصريين.
وقتذاك حقق رصيف22 في أسباب وجود عدد كبير من المصريين بين المفقودين والضحايا، بعدما لاحظ أن كثيرهم من محافظات ومراكز وقرى بعينها في مصر، طالما صنِّفت من أكثر القرى والمناطق فقرًا، إذ يلجأ سكانها إلى العمل في ليبيا القريبة لتوفير الدخل في ظل ندرة فرص العمل وتراجع الدخول في قراهم ومحافظاتهم.
مر أكثر من ثلاثة أشهر على ذلك الإعصار، وكذلك مر ثلاثة أشهر على تعهد مصر بتكثيف التعاون مع السلطات الليبية والمؤسسات والمنظمات الدولية المعنية للبحث عن المفقودين، الذين قدرتهم وزيرة الهجرة المصرية بنحو 291 مفقودًا، وإن كان يعتقد أن العدد يفوق ذلك لكون معظم العاملين المصريين في ليبيا يسافرون بطرق غير منظمة قانونيًا ومن دون الحصول على تصاريح عمل من السلطات المصرية.
في سبتمبر/ أيلول الماضي، ضرب إعصار دانيال السواحل الجنوبية الشرقية للبحر المتوسط، متسببًا في كارثة بيئية وإنسانية عنيفة في درنة الليبية، مخلفًا آلافًا من الضحايا والمفقودين معظمهم من الليبيين وعدد غير قليل منهم من المصريين.
وقتذاك حقق رصيف22 في أسباب وجود عدد كبير من المصريين بين المفقودين والضحايا، بعدما لاحظ أن كثيرهم من محافظات ومراكز وقرى بعينها في مصر، طالما صنِّفت من أكثر القرى والمناطق فقرًا، إذ يلجأ سكانها إلى العمل في ليبيا القريبة لتوفير الدخل في ظل ندرة فرص العمل وتراجع الدخول في قراهم ومحافظاتهم.
مر أكثر من ثلاثة أشهر على ذلك الإعصار، وكذلك مر ثلاثة أشهر على تعهد مصر بتكثيف التعاون مع السلطات الليبية والمؤسسات والمنظمات الدولية المعنية للبحث عن المفقودين، الذين قدرتهم وزيرة الهجرة المصرية بنحو 291 مفقودًا، وإن كان يعتقد أن العدد يفوق ذلك لكون معظم العاملين المصريين في ليبيا يسافرون بطرق غير منظمة قانونيًا ومن دون الحصول على تصاريح عمل من السلطات المصرية.
لكن بعد تلك الشهور الثلاثة التي انقضت منذ الإعصار، لا تزال الأسر في هذه القرى والمراكز المصرية تبحث عن ذويها، ومعهم أسر لمفقودين من السودان وسوريا، كانت درنة محل عائليهم المختار للبحث عن لقمة العيش.
رصيف22 تواصل هاتفياً مع أسر عدد من الضحايا في مصر وليبيا وسوريا والسودان ممن لا يزالون ينتظرون خبرًا يطمئنهم على المفقودين.
رحلة عمل قصيرة انتهت بالفقد
عمل محمد اسماعيل خبَّاز “بيتزا وفطائر” في أحد المطاعم في درنة التي استقر فيها قبل 11 شهرًا من الإعصار، في شارع البحر الذي كان يطل عليه كل يوم باسمًا غير متوقع لأن يكون ضياعه عن أهله بسبب إعصار قادم من هذا البحر بالذات.
خلال تلك الأشهر، كان محمد حريصًا على الاتصال اليومي بزوجته وأطفاله ليطمئن على أحوالهم، وطار أولاده من السعادة حين أبلغهم أنه سيعود إلى مصر نهائيًا في الشهر التالي (أكتوبر/ تشرين الثاني 2022) مهما كانت العثرات المادية التي سيواجهها مرددًا “أنا تُبْت مش هسافر ثاني وأبعد عنكم “. حسبما تحكي لنا زوجته مشيرة مجدي، وتضيف: “قبل 10 سنوات تزوجنا وأنجبنا أطفالنا الثلاثة، ظروفنا المعيشية الصعبة دفعته للسفر إلى ليبيا رغم ارتباطه الشديد بنا إلا أنه كان قد عقد العزم على العودة إلى مصر“.
تتذكر مشيرة تفاصيل آخر مكالمة بينها وبين زوجها قبل اختفائه يوم 10 سبتمبر/ أيلول الماضي: “أرسل زوجي مقطع فيديو لمشهد المياه في الشوارع ، وقال لي 10 دقايق ابدل ملابسي المبللة وأكلمك“، تضيف: “منذ ذلك الحين، وأنا أحاول الاتصال به دون فائدة“.
محمد ليس الوحيد من أبناء عزبته (قريته) المفقود في إعصار درنة، هناك 15 شاباً آخرين مفقودين.
تواصلت مشيرة مع الهلال الأحمر المصري عقب الحادث لمعرفة معلومات بشأن زوجها من دون فائدة، تختتم حديثها برسالة وجهتها للجهات المعنية في مصر قائلة “عايزة اطمئن على جوزي أعرف هو عايش ولا ميت، حتى لو يرجع فاقد الذاكرة والنطق أو مشلول سأتولى رعاية أسرتي“.
أسرة حازم سيد 27 عاماً، خريج كلية الشريعة والقانون في جامعة الأزهر، تعيش المأساة نفسها بينما تنتظر عودته إلى منفلوط في محافظة أسيوط الجنوبية. فعقب تخرجه، سافر حازم إلى ليبيا في يونيو/ حزيران الماضي بعد إنجاب زوجته لطفلتهما الوحيدة، ليستقر بدرنة عاملاً في بيع الخضر والفاكهة.
قبل ساعات قليلة من غرق العقار الذي كان يقطنه (حسبما عرفت زوجته من الصور) تواصل معها ليطمئن عليها وعلى صغيرته، ولم تدر زوجته نورهان عبد الله أنها لن تراه مجدداً. تقول لرصيف22 إن زوجها سافر إلى ليبيا قبل الإعصار بثلاثة أشهر، وافتتح محلاً صغيرا لبيع الخضر والفاكهة في سوق درنة “كانت الفرصة الكويسة للقمة العيش“.
أجرت الشابة العشرينية مكالمتها الأخيرة مع زوجها أثناء فورة الإعصار في الثانية من صباح يوم 11 سبتمبر/ أيلول الماضي، تقول: “حاولت الاتصال به بعدما سمعت خبر انهيار سدود درنة ولكن اتصالاتي كلها جاءت بدون فائدة. لم أترك وسيلة اتصال مع جهة مسؤولة في مصر وليبيا وحتى الآن لا أجد خبرًا يهدئ قلبي“.
ناجٍ وحيد
في عام 2000، حزم محمد فراس قلعجي أمتعته مهاجرًا من سوريا إلى ليبيا بحثاً عن فرصة عمل أفضل. عمل في صيانة السيارات وظل على تواصل دائم مع عائلته ليطمئن على والديه وأشقائه، إلى أن عاد إلى دمشق – مسقط رأسه– ليتزوج السيدة رنا الخطيب ويكوّنا أسرتهما في عام 2005 بعد أن استقرت أوضاعه.
طوال الوقت كان قلعجي حريصًا على مساعدة أسرته قدر المستطاع، واضعاً أشقاءه على رأس أولوياته إلى جانب أولاده. وعلى مدار سنوات زواجهما رزق وزوجته 6 أبناء، أكبرهم عمره 16 عامًا وأصغرهم عمره 8 أشهر.
رحلة القلعجي الطيبة الهادئة والتي صمدت في وجه ما مرت به ليبيا من أعاصير السياسية والأمن طوال 13 عاماً منذ الثورة الليبية في 2011، لم تصمد أمام إعصار دانيال.
في يوم الإعصار، توفي القلعجي الذي كان لا يزال في مطلع الأربعين حياته، وكذا ابنته جنى (12) عاماً، فيما لا تزال وزوجته و5 من أبنائه في عداد المفقودين، ولم ينج إلا شقيقه شادي الذي كان يعمل معه.
كأن قلبه يحدثه باقتراب موعد وفاته، قبل الإعصار بثلاث ساعات فقط، هاتف محمد قلعجي والدته وشقيقته في مكالمة فيديو، وأبلغ شقيقه خير الذي تحدث إلى رصيف22، برغبته في إرسال أموال ليشتري له ولأسرته منزلاً جديداً في سوريا، لكن لم يسعفه القدر، لتضيع ممتلكاته بفعل السيل، كما يخبرنا خير.
قبل 5 أعوام كان شادي قلعجي – 38 عاماً– قد سافر للحاق بشقيقه الأكبر وعمل برفقته في صيانة السيارات.
يحكي لنا شادي – في مكالمة هاتفية– الساعات الأخيرة في حياة أسرته: “قبل الكارثة بساعات قليلة حذرت السلطات الليبية المقيمين بمنطقة كورنيش البحر من عاصفة ستشهدها المنطقة مع احتمال تحرك مياه البحر عن موضعها، وطالبت الناس بإخلاء المنازل، ويوم الإعصار الموافق في 11 سبتمبر/أيلول الماضي، عندما خفت الأمطار قليلاً صعدنا لدى الجيران في الطابق الأول في المبنى، ثم عدنا لشقة شقيقي بالدور الأرضي لأخذ بعض المقتنيات لكن لم تسعفنا السيول، وانفتحت الأبواب وغمرتنا المياه وفقدت الوعي. ولولا إسعاف صديقي لكنت في عداد الأموات“.
الكوابيس تطاردني
يضيف شادي “عثر على شقيقي متوفى داخل حوش المبنى وابنته جنى 12 عامًا عثرنا على جثمانها داخل أحد مستشفيات درنة لتدفن هي ووالدها بإحدى المقابر الجماعية بليبيا، أما زوجة أخي وأبناؤه الخمسة فكانوا فوق سطح المبنى وجرفهم السيل، وإلى الآن لم نعثر على أي منهم.
انقلبت حياة شادي بعد الحادث: “حياتي دمرت بالكامل، فقدت شقيقي الأكبر الذي كان في مقام والدي وأسرته، ما زالت تطاردني الكوابيس، لم تفارقني اللحظات الأخيرة التي عشتها معه، بت شبه محتجز في درنة لعدم امتلاكي أوراق ثبوتية أو أموال بعد فقدان كل ما أملك في الإعصار، لا أستطيع مغادرة المدينة أو التنقل لأنحاء ليبيا أو السفر خارجها“.
في سوريا، استقبلت الجدة خبر وفاة ابنها وطفلته وفقدان أفراد أسرته بالبكاء والغياب عن الوعي، فيما أقامت عائلته عزاء كبيراً للضحايا، ورغم مرور 3 أشهر على الحادث لا تزال أم محمد تبكي وتبتهل إلى الله متمسكة بالأمل في العثور على ما تبقى من أسرة ابنها وأن تجدهم على قيد الحياة.
كله راح
قبل 43 عاماً وتحديداً عام 1980، هاجر مدثِّر صدِّيق 68 عامًا ابن دولة السودان إلى ليبيا بحثاً عن الرزق. لم يتخط عمره حينذاك 25 عاماً.
تزوج صديق عام 1984، وأنجب 5 أبناء أكبرهم عمره 33 عاماً وأصغرهم 21 عاماً. اثنان منهم كانا يعيشان معه ومع والدتهما في ليبيا، بينما يعيش واحد في السعودية واثنان آخران بالسودان.
فقد الأبناء البعيدون والدهم ووالدتهم وشقيقهم محمد – 24 عاماً– في إعصار دانيال، ولم يعثر إلا على جثمان شقيقهم فراس فيما بقى الأبوان وابنهما محمد مفقودين.
يحكي الشقيق الأصغر لمدثر، واسمه المزمل صديق، لرصيف22: “في بداية غربة شقيقي في ليبيا عمل بمجال المنشآت العامة للأعمال المدنية بدرنة، ثم تقاعد ليعمل بالهلال الأحمر الليبي قبل خروجه على المعاش في سن الـ64 عاماً وتعلق بليبيا فقرر البقاء فيها، وعندما غير رأيه لم يمهله القدر ليعود إلى السودان.
يواصل المزمل: “عثر أصدقاء فراس على جثمانه ليدفن بإحدى المقابر الجماعية هناك، بينما ظل محمد الذي يدرس بكلية الهندسة في ليبيا ووالدته ووالده مفقودين، لكن مسؤول الجالية السودانية هناك أبلغنا مؤخرًا بأنهم في عداد الأموات“.
جاءوا من سوريا ومصر والسودان، دفعتهم الظروف الاقتصادية للرحيل إلى درنة الليبية بحثاً عن حياة أفضل، ثم جاء الإعصار ليترك أفراد عائلاتهم من في حيرة، قلوبهم معلقة بسماع خبر يطمئن أو جثمان للدفن.
سهاد الخضري ـ صحافية مصرية عملت في عدد من الصحف المصرية والمواقع العربية، وتهتم بالتحقيقات والقصص الإنسانية والصحافة العلمية.
___________