سعد العشة

مرّ إعصار دانيالفي مشواره المتوسطي على الساحل الليبي، وعليه دمّر على أكثر البيئات هشاشةً في رحلته المزلزلة. في ساعات الرحلة هذه، كنتُ أقرأ في ظلام العواصف الملازم كمن يقرأ في المعتقلات؛ برغم أنّي لم أعِش حياة السجون، حيث لا يتمتع المُعتَقلون بترف الدفء والطمأنينة.

صرتُ أتنقل في بيتنا الآمن بين فينومونولوجيا هيغل وسينما دولوز في سويعات وسنٍ وصحوٍ مغيَّب عمّن يُحتضَر ومن يصارع الموت وينجو. في ساعات الرحلة هذه، قتلت العاصفة آلاف المعتقلين في سجن ليبيا الكبير، لتصبح هذه الفاجعة أكبر الكوارث في تاريخ البلاد الحديث.

في مدينتي البيضاء، لم نتوقع أن تمسي العاصفة وحشاً بهذه القسوة، فهي ليست المرة الأولى التي يستجلب فيها شتاء المدينة وابلاً يُغرِق المدينة يوماً كاملاً بليلته. يُردَف هذا إلى إيمان الليبيين العميق بحماية إلهية غيّبت عنه الكوارث لعقود، منذ زلزال مدينة المرج في 1963.

في هذا السياق، يتندّر الكاتب سالم العوكلي في بوابة الوسط، على ذهنية الاستخفاف بالأمان في المجتمع:

حين اشتريت أول سيارة نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، وأتممت إجراءات ملكيتها وتأمينها، واستخرجت رخصة قيادة، قررت أن أمضي قدماً في التزامي بالقانون، وبشكل غير دارج اتخذت قرار ربط حزام الأمان في كل حركة، ولكن، وعند أول بوابة، أوقفني شرطي المرور دون الجميع، وطلب أوراق السيارة وهو يقول بثقة من كشف حيلةً، ما مفاده أن ربطي للحزام ليس من دون خنطقيرة“! بمعنى أني أخفي مصيبةً بمحاولة تضليله بربط الحزاموحين وجد كل الإجراءات سليمةً، قال بإحباط: “غريبة“! وتركني أمضي في حال سبيلي. ومنذ تلك الحادثة أصبحت أفك حزام الأمان كلما اقتربت من بوابة حتى لا يجلب لي الشبهة“.

ولا يأتي عبثاً ذكر هذا العبث، فقد عاش وعمل العوكلي في المدينة القديمة في مدينة درنة، حيث انمحقت الأولى، أي القديمة، ودُمِّر ما يقرب من ثلث الثانية، درنة الكبرى. حوّل انفجار السدّيْن في وادي درنة منسوب المياه إلى تسونامياقتلع ما بناه البشر وقذف بضحاياه صوب البحر وما جاوره.

 وفق خضم الكره المتزايد للسلطات وأزمة الثقة المنبثقة، نسَّق الشعب جهوده عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وحاولت المنظمات الخيرية، على رأسها جمعية الهلال الأحمر الليبي، أن تساعد المتطوعين على كيفية إدارة الأزمة التي غاب مديروها الحقيقيّون. فالكارثة فوق طاقة وإرادة الموارد التي لم تؤسَّس أصلاً، وأولها ثلاجات تحفظ الجثامين التي رصفت قارعات الطرق.

وكعادة البشر في استجابتهم لكوارث الطبيعة، صار الهوس الإعلامي بصحة عدد الوفيات، ونجحت بعض أعمال النهب وفشل البعض الآخر، وكثُرَت التأويلات الثيولوجية عمّا إذا كان الأموات شهداء أم لا (عرَض مكتب توظيف في البيضاء خدمات حذف حسابات الضحايا الذين نشروا موسيقى وغيره، لعلهم يضمنون بذلك دخولهم إلى الجنة).

كعادة البشر أيضاً في هذه المواقف، اختبر الناس الانسجام والوئام، فتكاتفت أطراف البلاد المتباعدة، وعاد صدق الإحساس بمعاناة الآخر الذي شهدناه في الأيام المبكرة لانتفاضة 17 شباط/ فبراير 2011.

تكاد تعادل معونات الأفراد تلك المُرسَلة من دول عربية، وشهدت آثار الفقد على الوشائج المغيَّبة بين الشرقوالغربوالجنوبأيضاً؛ فللجميع أقارب وأصدقاء في المناطق المنكوبة كافةً. وبقدر شدّة الحداد على الضحايا الليبيين، تضامن المعزّون مع عائلات ضحايا العمّال الأجانب، لا سيما المصريين والسودانيين.

سيظل هذا الحدث الجلل، بلغة المؤرّخين، مرجعاً للّيبيين، إذ تصير الصدمة الجمعية تذكيراً بوهن دولتهم وخرابها، وتصبح المثال الأوحد لهذا الجيل في التعرّف على الكوارث المحتَمَلة مستقبلاً.

وكما تظل انتفاضة 17 شباط/ فبراير في أول أيامها مرجعاً في التآخي والتكافل، تبقى أيضاً مرجعاً في الانقسام والتشظّي، والوقت مبكّر جداً على استبصار تحوّل التآخي في أيامنا هذه إلى نمطٍ مستجدٍّ من التشظّي.

كل كارثة تبعاتها في سوء الإدارة، طبيعيةً كانت (تسونامي المحيط الهندي في 2004 مثالاً)، أو لم تكن (تشرنوبل وفوكوشيما). فما حدث في شرق ليبيا، وفي درنة على وجه الخصوص، سوء إدارة في أدنى المستويات.

أرجّح أن جل أهل الضحايا سيرغبون في محاسبة المسؤول عن التأخر في الاستجابة في الأقل، فهم الآن – أي أهل الضحايايفرّقون بين القضاء والقدر ومسؤولية البشر. لكن المحاسَبة في هذا الإقليم المعطوب خنطقيرةوشبه مستحيلة (انفجار مرفأ بيروت 2020، مثالاً).

في مطلع جمهورية أفلاطون، يستفهم سقراط عن طبيعة العدالة وليس عن معناها، إذ تسبق طبائع الأشياء معانيها. هكذا يُنظَر هنا إلى طبيعة الكارثة والمسؤول أولاً. لا وجود لرواية أصح أو أحقفي هكذا موقف وفي هذا الوقت.

الرواية الأقرب إلى ذلك نسمعها مِمّن قذف به الطوفان إلى بلكونة، فطرق بابها على صاحب الشقة ليفتح له؛ من الذين وثّقوا الحدث بالصوت والصورة، تارةً، وعبر المنشورات الفيسبوكية تارةً أخرى، قبل أن نسمع أنهم ماتوا بعدها.

سنسمعها، يقيناً، من الذين كشفوا الأغطية عن الجثامين الملقاة في الشوارع، فرأوا وجوهاً ميّتةً، لعلها تقتل وطأة الانتظار والحيرة، أو لعلها تؤجل المحتوم، فيصير المفقود في حضرة هشاشة الوجود التي تسبق زمنياً هشاشة البلد وناسه.

____________

مقالات مشابهة

8 CommentsLeave a comment

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *