حامد الكناني
اقتصاد طرابلس تحمّل أضراراً بمليارات الدولارات وقطاع الصحة أصابه الشلل والمواطنون قاوموا العقوبات بتظاهرات أمام السفارات الغربية.
***
شهدت سماء إسكتلندا في الـ21 من ديسمبر (كانون الأول) 1988 تفجير طائرة ركاب أميركية كان على متنها 259 شخصاً قتلوا جميعاً كما قتل 11 مواطناً إسكتلندياً على الأرض بعد سقوط حطام الطائرة.
عُرفت هذه القضية باسم “لوكربي” وتصدرت القضايا الدولية على مدى أكثر من عقد وأشعلت فتيل أزمة سياسية وحقوقية بين النظام الليبي من جانب وأميركا وبريطانيا ومجلس الأمن الدولي من جانب آخر، إذ إن محققين أميركيين وبريطانيين اتهموا الليبيين عبدالباسط المقرحي والأمين خليفة فهيمة بـقتل 270 شخصاً وانتهاك قانون أمن الطيران البريطاني لعام 1982.
المصائب لا تأتي فرادى
يقال إن المصائب لا تأتي فرادى، فبعد 10 أشهر من حادثة سقوط الطائرة الأميركية في إسكتلندا شهدت سماء النيجر في الـ 19 من سبتمبر (أيلول) 1989 سقوط طائرة أخرى تابعة لـ“يو تي أي” الفرنسية، كانت متوجهة من باريس إلى تشاد، حيث قتل جميع من كانوا على متنها وعددهم 170 شخصاً.
وبما أن الطائرة الفرنسية سقطت نتيجة انفجار قنبلة وضعت داخل حقيبة كانت ضمن الأمتعة في مخزن الطائرة، وهي حادثة مماثلة لحادثة سقوط الطائرة الأميركية فوق لوكربي، اتجهت أصابع الاتهام فوراً إلى النظام الليبي، ولحقت الحكومة الفرنسية بركب أميركا وبريطانيا وبحراكهما القانوني على الصعيد الدولي وداخل أروقة مجلس الأمن من أجل ممارسة الضغوط على ليبيا وحثها على تسليم المتهمين والإقرار بارتكاب الجريمتين.
وكانت السلطات في سنغافورة أعلنت ضبط شحنة نووية مهربة كانت في طريقها إلى ليبيا، الأمر الذي زاد الطين بلة وأثار قلق المجتمع الدولي ورفع دائرة الاستهداف والضغط على النظام الليبي.
ولم تكن الدول الثلاث الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا إضافة إلى مجلس الأمن الدولي وحدها تطالب النظام الليبي بتسليم المتهمين والإقرار بالجريمتين، بل كانت هناك مئات أسر ضحايا الطائرتين المنكوبتين في إسكتلندا والنيجر في أكثر من 16 دولة، أقاموا قضايا قانونية ضد النظام الليبي وقياداته، مما أدى في نهاية الأمر إلى قبول ليبيا المسؤولية عن سقوط الطائرة الفرنسية ودفع تعويضات مالية لأسر الضحايا تجاوزت 170 مليون دولار أميركي في يناير (كانون الثاني) 2004.
وفي ما يتعلق بقضية تهريب الشحنة النووية تشير الوثائق البريطانية إلى موضوع عثور السلطات في سنغافورة على الشحنة النووية التي كانت في طريقها إلى ليبيا، ففي رسالة مؤرخة في الـ 23 من مارس (آذار) 1993 من الممثل الدائم لسنغافورة لدى الأمم المتحدة، جاء فيها أنه “امتثالاً لقرار اللجنة القاضي بأن إعادة شحن المفاعلات الثمانية إلى الجماهيرية العربية الليبية تتعارض مع أحكام قرار مجلس الأمن 748 (1992)، لن تسمح حكومة سنغافورة بإعادة شحنها وأصدرت تعليمات إلى إدارة الشحن بالتخلص منها“.
وكان القذافي بذل في ثمانينيات القرن الماضي محاولات عدة بهدف تدشين برنامج نووي والحصول على الطاقة النووية مستخدماً مصادر السوق السوداء النووية.
مجلس الأمن يصدر القرار رقم 748
رفض النظام الليبي التهم المنسوبة إليه وامتنع عن تسليم المشتبه فيهما عبدالباسط المقرحي والأمين خليفة فهيمة إلى المحاكم الإسكتلندية، معتقداً بأن مثل هذه الحوادث ستمر مرور الكرام بدفع تعويضات لذوي الضحايا، لكن الوضع مع ليبيا كان مختلفاً تماماً.
وأصدر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في الـ15 من أبريل (نيسان) 1992 قراراً بفرض عقوبات دولية على ليبيا، فكانت تداعيات هذا القرار كارثية وخطرة على النظام والاقتصاد الليبيين.
كانت قيادات النظام الليبي تعيش المراهقة السياسية.
قيادات ثورية لا تجيد لعبة المماطلة السياسية ولم تصل إلى درجة النضوج السياسي حتى بعد عقود من تسلمها السلطة. كما أنها لم تمتلك خبرة الالتفاف على العقوبات الدولية وتقليل أضرارها، ناهيك عن فقر ليبيا لوجود لوبيات مناصرة لها في الدول الغربية حيث كان النظام الليبي تبنى دعم الحركات المناهضة لمعظم الدول تحت عنوان “مناهضة الإمبريالية“.
واتهمت ليبيا بتزويد عدد من المنظمات والمجموعات المناهضة للدول الغربية بالمال والسلاح ومنها على سبيل المثال، الجيش الجمهوري الإيرلندي الموقت PIRA في بريطانيا، ومجموعة GRAPO التي كانت تعمل إلى جانب منظمة الباسك المطالبة بالاستقلال عن إسبانيا. كما كانت علاقات النظام الليبي مع معظم الدول العربية متوترة وشبه معدومة.
الأضرار الناجمة عن العقوبات في عامها الأول
جاء في الرسالة السرية المرسلة من قبل البعثة البريطانية في مالطا إلى مرجعيتها في لندن حول العدد الأخير من نشرة أخبار الجماهيرية الليبية، ما نصه:
“لوكربي/ يو تي أي: العقوبات ضد ليبيا، في حال عدم وصولكم من أي مصدر آخر، أرفق طيه نسخة من العدد الأخير من نشرة أخبار الجماهيرية التي تهدف إلى إزالة آثار قرار مجلس الأمن رقم 748 على ليبيا. سيكون الآخرون أكثر قدرة على الحكم مما نستطيع في هذا المنشور، سواء كان الاستطلاع دعاية جادة“
وتضيف الرسالة
“يتضح من الأعداد الأخرى للنشرة التي نتلقاها بصورة متقطعة أن هناك قائمة واسعة من المحاولات والاتصالات، على الصعد السياسية والاقتصادية والثقافية، لا تزال قائمة في ليبيا، ولم تختصر على الدول العربية المجاورة، بل أيضاً تشمل بعض شركائنا الأوروبيين، لا سيما إيطاليا وفرنسا، وحتى مع مختلف أجهزة الأمم المتحدة“.
وحول العقوبات الدولية التي صدرت ضد ليبيا وحجم أضرارها تشير وثائق الأرشيف الوطني البريطاني التي كشف عنها أخيراً إلى بعض المراسلات حول هذا الموضوع ومنها نشرة أخبار الجماهيرية في عددها رقم 856 الصادر في الـ 10 من يوليو (تموز) 1993 والتي تتضمن تقييماً للأضرار المترتبة على ليبيا خلال عام من تطبيق الحصار الاقتصادي والعسكري الذي فرضته العقوبات الدولية.
ووفق ما جاء في نشرة الجماهيرية فإن الحظر الجوي المفروض على الجماهيرية الليبية عرض مواطنيها ومختلف فئات المقيمين الأجانب العاملين فيها لتداعيات وتأثيرات سلبية مختلفة وخطرة للغاية ومنها تعثر نقل 8525 حالة مرضية خطرة إلى خارج ليبيا حيث كان يستحيل علاجها طبياً محلياً مثل حالات القلب وزراعة الكلى وأمراض العيون وجراحة الدماغ والجراحة والبزل القطني (الشوكي) للعمود الفقري والحروق والأمراض الخبيثة.
ومن بين التأثيرات أيضاً تعطلت برامج الأساتذة الزائرين والاختصاصيين الطبيين والمحاضرين المدعوين من جامعات وكليات مختلفة في النمسا ويوغوسلافيا وألمانيا وسويسرا وفرنسا وإيطاليا وبولندا وبلغاريا.
من ناحية أخرى، كان من المستحيل على عدد من الأطباء والأساتذة الليبيين المشاركة في مختلف المؤتمرات وورش العمل الدولية التي عقدت في أنحاء العالم كافة، وكذلك تعطلت خدمات الصيانة للمعدات الطبية والكهروميكانيكية المستعملة في المرافق الصحية بسبب نقص قطع الغيار وإعاقة البرنامج المتفق عليه مع منظمة الصحة العالمية وتأخر وصول إمدادات البضائع الطبية.
وتعرض الاقتصاد الوطني الليبي لأضرار جسيمة، إذ بلغ إجمالي الخسائر المباشرة 2400 مليون دولار أميركي وانخفض الإنتاج الزراعي بنسبة تقدر بـ40 في المئة وتوقفت حركة الشحن الجوي للخطوط الجوية العربية الليبية في الخارج، مما كبدها خسائر في الموارد المالية تقدر بنحو 129 مليون دولار أميركي.
وخسرت الشركة الاشتراكية لإدارة المطارات مبالغ كبيرة من الأموال بسبب فقدان مواقف السيارات والطيران والرسوم الأخرى بمبلغ يقدر بـ36.300 مليون دولار أميركي.
وفقدت شركة النقل الجوي الخفيف والخدمات الفنية إيرادات تقدر بنحو 5.887 مليون دولار أميركي بسبب توقف إمدادات قطع الغيار اللازمة لصيانة وتشغيل طائراتها وفقاً للجداول الزمنية.
وتأثرت الخدمات البريدية بشدة بالمقاطعة الجوية، فتم اختيار مكاتب بريدية وسيطة لتسليم البريد، مما أدى إلى زيادة النفقات بنسبة 40 في المئة، وحدث اضطراب واضح في برامج وأنشطة الشركات الصناعية وعلاقاتها مع نظيراتها الصناعية الدولية بسبب الحصار.
وتضيف النشرة الليبية أن “الدعاية الغربية التي رافقت تطبيق القرار أدت دوراً فاعلاً في التأثير في المؤسسات الصناعية الأجنبية الكبرى والمقاولين الذين ينشئون مشاريعنا الصناعية لاتخاذ موقف سلبي قائم على أعذار واهية“.
تظاهرات أمام السفارات الغربية
ومع مرور عام على تطبيق قرار العقوبات الدولية رقم 748 الصادر ضد ليبيا، نظمت السلطات مسيرات جماهيرية حاشدة وأقامت تظاهرات غاضبة عدة أمام السفارات الغربية في البلاد، حيث سلم المتظاهرون رسائل إلى مكتب الأمم المتحدة لدى ليبيا وإلى سفراء الدول الأعضاء في مجلس الأمن آنذاك وهي بلجيكا وفرنسا والصين وروسيا وباكستان وفنزويلا والمجر وإسبانيا واليابان والمغرب، تتضمن إدانات شعبية للقرار الدولي ووصف العقوبات بأنها جائرة وغير قانونية وغير مبررة.
كما تتهم مجلس الأمن الدولي بالكيل بمكيالين في تطبيق قراراته وأن “القرار يعكس النزعات العنصرية لأعضاء مجلس الأمن“.
وذكرت الوثائق البريطانية نقلاً عن وكالة أنباء الجماهيرية الليبية أنه “تم تمديد العقوبات للمرة الثالثة ضد شعب الجماهيرية العظمى. نحن جماهير اللجان الشعبية كنا نتوقع أن يرفع مجلس الأمن القرار 748، الصادر في الثامن من أبريل 1992 وألا يقوم بتمديده أكثر”.
“لقد أثبتت قوى السلام وخبراء القانون الدولي والمنظمات غير الحكومية في جميع أنحاء العالم أن هذه العقوبات غير قانونية وغير مبررة، وثبت أن مجلس الأمن يفسر مواثيق الأمم المتحدة بطريقة فاسدة بدلاً من الحياد، وهذا يؤكد أن مجلس الأمن يستخدم كأداة لتطبيق السياسات العدوانية المملاة عليه“.
تهديدات باغتيال سفراء
يتحدث التقرير السري الذي يحمل تاريخ الـ 16 من أبريل 1993 والمرسل من قبل السفارة البريطانية في بودابست إلى وزارة الخارجية البريطانية في لندن عن أن السلطات الهنغارية أبلغت الأميركيين أنها تلقت رسالة تهدد باغتيال السفراء الأميركي والفرنسي والبريطاني.
ويشكك السفير البريطاني في صحة الرسالة ويفترض أنها ربما تكون فبركة من قبل الجهات الهنغارية.
وجاء في الرسالة، ” سيدي، أود أن أبلغكم أنه في حال أقرت الأمم المتحدة عقوبات جديدة ضد ليبيا ستتم مهاجمة سفراء فرنسا وأميركا وبريطانيا، إذ جرى عقد اجتماع في السفارة الليبية على مستوى وكلّف بعض الطلاب الليبيين والفلسطينيين الثوريين في بودابست تنفيذ المهمات. العملية مخطط لها بالكامل وخطرة جداً“.
ويضيف التقرير أن السفارتين البريطانية والفرنسية في بودابست لم تتلقيا اتصالات أو رسائل مماثلة وربما تكون هذه الرسالة مفبركة، مردفاً “فقد تحدثنا (وكذلك الأميركيون) إلى مكتب الأمن القومي الذي لم يؤكد صحة الرسالة أو التهديد المحتمل. نحن نبلغ الشرطة، لكننا لن نطلب أي زيادة في الإجراءات الأمنية المتخذة في هذه المرحلة“.
…
يتبع
_______________