عمر الكدي

ماذا كان سيحدث لو تطورت ليبيا منذ استقلالها بدون نفط؟

سؤال عبثي فلو تفتح عمل الشيطان كما يردد الفقهاء، الذين لا يريدوننا التفكير خارج الصندوق الذي أقفلوه علينا.

ما دفعني لطرح هذا السؤال هو الارتباط الشديد بين النفط والدولة الريعية. باختصار الدولة الريعية هي الدولة التي تؤجر أهم مصادر دخلها لشريك أجنبي، يتولى إدارة واستثمار وتسويق الإنتاج، ثم توزع الدولة العوائد على كافة شرائح المجتمع، وجميع الدول العربية المصدرة للنفط ينطبق عليها هذا التعريف، بالإضافة إلى فنزويلا وسلطنة بروناي.

ولكن هذا التعريف لا ينطبق على النرويج التي تعتبر من أكبر مصدري النفط والغاز، لأن الدولة تعتمد على الضرائب، وخصصت معظم عوائد النفط لصندوقها السيادي الأكبر في العالم من أجل الأجيال القادمة.
في تقديري لو لم يكتشف النفط في ليبيا لتطورت مثل تونس، وبالتالي لن تكون الدولة استبدادية حتى عندما تتحول إلى دولة بوليسية كما في عهد بن علي مقارنة باستبداد القذافي، الأمر الذي كان يدفعني للقول لصديقي الشاعر والمفكر التونسي خالد النجار الذي كان يسمي بن علي جنرال قرطاج، فأقول له شنو رأيكم انبدلوا خذوا عقيد باب العزيزية واعطونا جنرال قرطاج، فيرفض قائلا بن علي ساحلي والقذافي بدوي.

قبل النفط كانت المدينة بالرغم من صغر مساحتها تقوم بدور انتقائي. كان الريفيون والبدو يأتون إلى المدينة بحثا عن العمل، وليس أمامهم إلا الجيش والشرطة، وهما مؤسستان تقومان على الضبط والربط، فتتوليان تأهيل الوافدين للاندماج في المدينة.

وكانت المدينة ستستغرق وقتا طويلا لدمج معظم سكان البلاد، وهنا أقصد بالمدينة جميع المدن دون استثناء من زوارة إلى طبرق، مرورا بهون وسبها ومرزق وغدامس، ولكن عملية الانتقاء كانت أوضح في طرابلس وبنغازي ودرنة.

الجيش والشرطة جمعا لأول مرة الليبيين بكل قبائلهم وأعراقهم، ثم تولت هذه المهمة الجامعة الليبية ومعاهد المعلمين والمدارس الثانوية، فالراغبون في دراسة العلوم البحتة والتطبيقية عليهم التوجه إلى جامعة طرابلس، والراغبون في دراسة الآداب والعلوم الإنسانية عليهم التوجه إلى جامعة بنغازي.

ومعهد إسماعيل الجيطالي للمعلمين في جادو جمع جميع طلبة الجبل الغربي، بينما جمعت مدرسة غريان الثانوية جميع طلبة الجبل وقس على ذلك في جميع المناطق. وكان على الجميع الإقامة في الأقسام الداخلية.

أعتقد أن من فكر في ذلك كان يفكر بطريقة منهجية لتوحيد شعب فرقت الظروف المختلفة بين قبائله ومناطقه الجغرافية، وأن تلك المؤسسات كانت اللبنة الأولى في الوحدة الوطنية.

كان على الدولة الوليدة إدارة هذه الفسيفساء بعوائد الضرائب القليلة وبايجار القواعد الأجنبية، ولهذا شهدت الحركة النقابية حراكا ملحوظا سواء بقيادة سالم شيته في طرابلس أو رجب النيهوم في بنغازي، وكانت الدولة ترضخ لمطالب العمال.

وفجأة ظهر النفط وانقلبت الأحوال، فقبل النفط لم تكن ليبيا تعرف العمال الوافدين، فجميع الخدمات يقوم بها الليبيون، فالمقاول ليبي وجميع عمال البناء ليبيون، والنجار والميكانيكي والسكليستي وعامل النظافة وسائق الحافلة العمومية وسائق التاكسي أو الكاليس، والحلّاق والخبّاز والسنفاز والبقّال، وثمة عجز في المهن العليا مثل الطب فكان الأطباء من الجالية الإيطالية والمدرسون من مصر، واستعانت الحكومة بالخبرات الأجنبية في الإدارة والقضاء والتخطيط العمراني.

النفط أوقف عملية الانتقاء فهاجرت إلى المدن أعداد غفيرة من الدواخل. لم تكن هناك مساكن كافية لهم، فعاشوا في أكواخ الصفيح في باب عكارة وفي الهضبة الخضراء، كما أجرت عدة عائلات بيتا واحدا تقاسمته حتى وصلت إلى أربع وخمس عائلات، أما العزاب فسكنوا في الدكاكين.

جاء الوافدون بعاداتهم وتقاليدهم فتسببوا في ربكة في إيقاع المدينة.

قبل ذلك كان سكان المنشية وتاجوراء وسوق الجمعة وقصر بن غشير وجنزور والسواني والزهرة يأتون في الصباح ويعودون بعد أن يسوقوا إنتاجهم، ولا يبقى من الوافدين إلا الذين يعيشون بعيدا عن طرابلس مثل الغراينة، الذين وجدوا لهم موطىء قدم في المدينة القديمة تعرف بحومة غريان، فصارت لهم علاقة بالمدينة أقوى من علاقة بقية المناطق، فوفقا لما رواه لي عمي حسين كانت الرحلة بين غريان وطرابلس مشيا تستغرق منه يوما كاملا من الفجر حتى المغرب.

ما قبل النفط ظهرت شريحة من رجال الأعمال العصاميين، بدأوا من الصفر وبعد اكتشاف النفط اتسعت مشاريعهم واستثماراتهم قبل أن تجتاحهم ريح صرصر اسمها الفصل الثاني من الكتاب الأخضر.

الدولة الريعية لا تستطيع إنتاج طبقة رأسمالية مثل التي أنتجها الإقطاع الأوروبي، لأنها انتجت رجال أعمال تنقصهم الثقافة ولم يمروا مثل البرجوازيين الأوربيين بعصر التنوير والثورة الصناعية والنزعة الإنسانية، التي تطرد كل التصورات الكنسية والأسطورية وتتبنى العقل والعلم.

الشريحة الرأسمالية في الدولة الريعية شريحة محافظة ورجعية، هي مجرد طبقة كمبرادورية صنعها المستعمرون للقيام بوظائف لا داعي ليقوم بها أبناؤهم، وهم مجرد وكلاء للمستعمرين يسوقون بضائعهم ويرسلون لهم عوائدهم من الأرباح.

ولهذا فهذه الشريحة ليس لها مطالب حقوقية وديمقراطية، باستثناء تجار الكويت الذين كانوا أقوى من أسرة الصباح الحاكمة، فاقتسموا السلطة معهم وأسسوا أول برلمان في الخليج، قبل أن يصبح الحاكم في جميع الدول الريعية أقوى من المجتمع.

هكذا وجد القذافي ليبيا عندما حكمها فأقفل وصادر وأمم كل شيء، ليتحول الجميع إلى أجراء ينتظرون راتبهم منه نهاية كل شهر، ودق أسفينا بين أهل المدينة وأهل الدواخل، فأهل المدينة كانوا يملكون الأرض التي شيدوا عليها مساكن، طبعا سيؤجرها الوافدون ولكن قانون البيت لساكنه جعل أملاكهم تتبخر ويستمتع بها الوافدون.

هذه ليست مقولة اشتراكية وإنما لؤم البدوي عندما ينتقم من أهل المدينة.

تطورت تونس اعتمادا على تصدير زيت الزيتون والتمور والفوسفات والسياحة، وتطورت ليبيا اعتمادا على تصدير الزيت الأسود، ولكن ما يجري في تونس اليوم هو صراع بين الفلاح ابن الجنوب والتاجر البحار ابن الساحل.

وكما لخصه الدكتور الهادي التيمومي، فالذي فجر الثورة هو محمد البوعزيزي من سيدي بوزيد، والذي حلب الثورة هو الباجي قائد السبسي من سيدي بوسعيد. ترى من حلب الثورة التي فجرها البدو والحضر في بنغازي والأبرق، وفي الزنتان ومصراتة والزاوية؟

ثم تنافس على حلبها الجميع.

____________________

مقالات مشابهة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *