سراج دغمان
تكوِّين الزوايا والرؤية الفكرية للحركة
كانت روحانية الإمام السنوسي وكرماتهِ العظيمة وصدق ونُبل وصفاء سريرته وبساطة طرحهِ لدعوتهِ مع عوام الناس مفتاحًا لكسب القلوب وأسر الأرواح فحدث معهُ حوادث استدعت ظهور الكرامة وبها جُلبت ولاية الأتباع واستقر بها ولاء الناس في برقة.
ومن أشهرها شفاء الشيخ أبى شنيف الكزة شيخ وزعيم قبيلة العواقير الذي حاصرهُ المرض وشارف على الوفاة وكان في حالة من الغيبوبة فرقاهُ الإمام فشفي في الحال وكان لهذا الأمر وقعهُ وصداه في القلوب , فبدأ الناس يتبركون بالإمام أينما ذهب وتَكوَّن في أنفسهم الولاء والسمع والطاعة للإمام السنوسي .
كانت زاوية البيضاء أم الزوايا فهي أول زاوية يشيدها الإمام السنوسي في ليبيا مع أنصارهِ ومُرِيديه وأتباعهِ من أهل برقة وليبيا بعد زاوية أبى قُبيس بالحجاز
فكان شيخ قبيلة البراعصة الشيخ أبوبكر بوحدوث من أكبر داعمي الإمام السنوسي بالمال والجاه والنفس فقد ذكرت المصادر التاريخية أنَّهُ كان يشارك البنائيين أعمالهم في بناء المسجد والزاوية في البيضاء ويحث الناس من أجل إتباع تعاليم الإمام السنوسي ,
وهذا إن دل فهو يدل على صفاء ونقاء وروحانية صاحب الدعوة والأتباع أيضًا الذين أصلحوا أنفسهم بدعوة الإمام السنوسي وقدموا تاريخًا عظيمًا على مدار أجيال وأجيال بدأ منذُ إنشاء زاوية البيضاء إلى مقارعة الفرنسيين في أفريقيا والإيطاليين في ليبيا وثم مصارعة البريطانيين في العمق المصري وحتى نيل استقلال ليبيا .
فقد نجحت الحركة السنوسية المباركة في تكوين نموذج اجتماعي فريد في ليبيا ليصنع تشكيل الحركة الوطنية الكبرى في ليبيا وهذبتها بتعاليم الإسلام الحنيف كمرجعية وسطية علمية وروحية ساهمت في تعزيز روح المقاومة والكفاح من أجل تحرير الوطن وبناء دولة الاستقلال في عام 1951 م على أيدي الملك الصالح ادريس السنوسي حفيد الإمام السنوسي الأكبر .
كان نظام الزوايا الذي امتد على كامل التراب الليبي والذي ارتكز عمق امتدادهِ الفعلي في شرق ليبيا وجنوبها بحيث كانت تؤسس بنظرة استراتيجية ثاقبة للإمام السنوسي , فكانت موزعة على طرق ممرات القوافل التجارية وكذلك لديها طبيعة عسكرية في اختيار تضاريس أماكنها وتحصيناتها بحيث تكون عصية على الغزاة
ووصل امتداد الزوايا إلى نواحي تونس ومصر واليمن وتشاد كما سبق تكوينها في الحجاز بحيث وصل عددها لقرابة الخمسين زاوية كانت منارات لتحفيظ القرآن الكريم وتعليم العلوم الشرعية وتهذيب الأنفس والتزكية الروحية , كما رسَّخت ثقافة الانتاج في أنفس المريدين والكسب من خلال العمل بحيث كان لكل زاوية مساحات خاصة بها من الأراضي الصالحة لزراعة وأنشطة الاكتفاء الذاتي .
وقد أسَّسَ الإمام السنوسي الزوايا على نظام هرمي دقيق وربط بينها ليشكل حلقة وصل عميقة تربط هذه الزوايا بالزاوية المركزية الكبرى بالجغبوب التي كانت تُدير وتتابع كل الزوايا .
وكان لزوايا دورها في تقديم خدمات اجتماعية مهمة من إطعام المساكين وإيواء المشردين وكانت هي القضاء الفاصل بين المتخاصمين وفض النزاعات فكان لها دور مهم في الإصلاح ذات البين وكذلك في حماية القوافل التجارية .
يقول الإمام محمد بن علي السنوسي في إحدى رسائلهِ عن الزوايا ( إنها بيتٌ من بيوت الله ومسجدًا من مساجدهِ إذا حلت في مكان حلت فيه البركة والرحمة وعمرت بها البلاد وحصل النفع لأهلها لأنها ما أسست إلاَّ لقراءة القرآن ونشر شريعة ولد العدنان)
ومن أهم الزوايا هي زاوية الجغبوب التي أختارها الإمام السنوسي لتكون مركزًا للقيادة السنوسية واستقر بها عام 1268 هـ – 1852 م ,
وهذا عائد لعدة أسباب وعوامل فالإمام صاحب كشوفات عظيمة وهو من أهل الرؤية وقد رأي منامًا يرشدهُ لهذا الموقع والمكان لإنشاء الزاوية الرئيسية فيه , كذلك كانَ يُنَبِّهُ مُريديهِ وأتباعه وأهل ليبيا بأن هناك غزوٌ قادم من البحر وأخبرهم أن الجغبوب ستكون مركز أمان لهم لأنه بعيد عن السواحل ومحصن بصحراء وعرة.
كذلك للجغبوب أهمية استراتيجية أخرى فهي بوابة مفتوحة على جغرافية الصحراء السياسية والاجتماعية بتجاه العُمق الإفريقي فاستطاع أن يصنع من الجغبوب حاضرة التنوير والدعوة والهداية والإصلاح .
كذلك ابتعد الإمام عن مراكز الحكم في ذلك الوقت وكانت سياسته تميل للهدنة مع خصومهِ من المسلمين بحيث كان يرفض رفضًا باتًا أي مواجهة داخل كيان الأمة الإسلامية ويعتبر ذلك خدمة لأعدائها , كما تجنب الصدام مع الحركة المهدية التي كان مركزها السودان أو مع الولاة العثمانيين قبل أن تتفهم الدولة العثمانية الدور الإيجابي والمهم للحركة وتباركهُ أثناء قيادة الإمام الكبير محمد المهدي السنوسي فيما بعد .
وكان الإمام قد أنجب ولديه المباركين السادة محمد الشريف السنوسي والمهدي السنوسي من زواجهِ الثالث من ابنة الشيخ أحمد ابن فرج الله وهي السيدة فاطمة وكانَ عمرهُ في ذلك الوقت يناهز 59 عامًا وقد أرشدتهُ الرؤية لهذا الزواج فقد رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وهو يقول تزوج من إحدى بنات هذا الرجل السيد أحمد ابن فرج الله تأتيك بولدين يكونان من المهاجرين والأبرار.
وتوفي الإمام الأكبر محمد بن علي السنوسي رضي الله عنه بالجغبوب ودفن بها سنة 1859م بعد رحلة مباركة وطويلة في طلب العلم والدعوة والمقاومة والكفاح ضد الظلم والاستبداد وإزالة الخلافات بين أبناء الأمة وتوحيدها ضد أعدائها ومستعمريها .
فقد أسَّسَ هذا البُنيان الصلب لحركة غيرت وجه التاريخ وحمت الإسلام وأهله في ليبيا وأفريقيا وكانت هي منارة الإحياء للمجتمع الليبي وإعادة بنائهِ بعيدًا عن العصبية القبلية المقيتة وأمراض الجهويات والمناطقيات التي قسمت الوطن ومزقت نسيجه الاجتماعي ,
فكان مريدي الشيخ من كل جغرافية الأقاليم الليبية ومشايخ الحركة وقادتها من مختلف القبائل والمدن الليبية وقد بارك الله سبحانه وتعالى هذا الصرح وامتد ليشكل حلقة نضال وكفاح صارع بها السنوسيين ومريديهم وأنصارهم الاستعمار الفرنسي والإيطالي والبريطاني وواجهوا حملات التبشير بنور الدعوة المحمدية ,
ولم يغادر السنوسيون ليبيا إلاَّ وهي دولة ووطن آمن مستقر يعيش أهله في رغد العيش وكانَ أمامهُ مستقبلاً منيرًا بين الأمم والبلدان في التنمية والتعمير والاقتصاد والتعليم والحريات والعدالة , ولكن للأسف قد انقطعت سكة قطار الوطن الليبي في مسيرة تقدمهِ منذُ قدوم الانقلاب العسكري في سبتمبر 1969م , فكما قال الملك الصالح ادريس السنوسي مخاطبًا أبناء وطنهِ (إنَّ المحافظة على الاستقلال أصعب من نيلهِ ).
وفي النهاية نخرج بأن الجغرافية الليبية هي مركز مهم من مراكز التغيير السياسي والفكري في المغرب العربي عبر التاريخ , وأنَّ الحالة الليبية أثناء دخول الإمام السنوسي للوطن الليبي كان بها شتات اجتماعي واضح وإدارات سياسية ضعيفة بعيدة عن تشكيل المجتمع الواحد لكل الأقاليم الليبية أو أن تقوم بإصلاح اجتماعي يأتي بالاستقرار والنمو في الداخل الليبي ,
بالرغم من محاولات يوسف باشا القرمانلي والي طرابلس في وقتٍ ما من تأسيس كيان ليبيا القوي عبر امتداد سلطة حكمهِ لكل الأقاليم وتعميق جذور الدولة وتقويتها في الجغرافية الليبية وصناعة تحالفات مع جوارها المغاربي , لكن نجد أن الإرادة السياسية في الساحل الليبي في ذلك الوقت لم تستطع مقاومة مراكز القوى السياسة النافذة في مناخ ليبيا المائي.
كانت السواحل الليبية عُرضة دائمًا لامتداد مناطق النفوذ الدولي وتأثيرات الخطوط الجيوسياسية المحيطة بها والتي كانت ترى ليبيا جغرافية للحفاظ على مصالحها الأمنية والاقتصادية ولكنها لم تُعطي الجغرافية الليبية أهمية البناء الحضاري والإنساني في التاريخ الحديث لليبيا , وهذا أهم ما قدمتهُ الحركة السنوسية المباركة لداخل الليبي بأن صنعت الهوية السياسية والاجتماعية والفكرية المفقودة والتي جمعت الأمة الليبية في كيان واحد عبر مراحل زمنية مختلفة.
وكذلك وجد الإمام السنوسي مُرادهُ في ليبيا حيثُ رُفضت دعوته التجديدية والاصلاحية من قبل مراكز النفوذ السياسي والفكري في حواضر العالم العربي المسلم فوجد في جغرافية برقة وانثروبولوجيتها الاجتماعية مرادهُ بحيث ساهمت عوامل مختلفة في تأسيس ونجاح مشروعه العظيم الذي امتد لكل ليبيا.
نجد حرص الإمام السنوسي على توحيد الكيان الليبي عبر مدارس العلماء والمفكرين والنخبة , فنجد أن علماء كبار من طرابلس ومصراتة وزلتين والجنوب الليبي كانوا منذُ اللحظة الأولى مع السنوسيين أمثال الشيخ عمران بن بركة الفيتوري والشيخ مصطفى المحجوب والشيخ مصطفى الدردفي والشيخ أحمد أبوالقاسم التواتي والشيخ عمران الأشهب وغيرهم من الذين التقوا مع أخوتهم في برقة من أهل العلم والفكر أمثال الشيخ عمر الفضيل والشيخ فهيد العقوري والشيخ رافع فركاش والشيخ حمد بوحليقه وغيرهم .
ذاب الكيان القبلي والجهوي والمناطقي في كيان المشروع والفكرة والذي انتهى بتأسيس دولة الاستقلال التي شكلت الدولة الوطنية الليبية سنة 1951م.
تقبل الله من هؤلاء العظام كفاحهم ونضالهم وأصلح الله حال الوطن وأهلهِ وألهمهم سبيل الرشاد .
_____________